الثلاثاء، 5 مايو 2009

متى يبدأ التحرر الحضاري؟

د. رفيق حبيب / 12-04-2009
مثلت حرب إسرائيل على قطاع غزة لحظة فاصلة في مسيرة التحرر الوطني، فقد ظهر جليا أن كل مسار حركة التحرر الوطني التي شملت البلاد العربية والإسلامية وصلت لمرحلة النهاية، ولم تحقق الهدف المراد منها، ولم تستطع تغيير واقع الدول العربية والإسلامية.
فبعد مرحلة من النضال ضد الاستعمار الغربي العسكري، وبعد سلسلة من عمليات التحرر، وخروج الجيوش الأجنبية من العديد من الدول العربية والإسلامية، حتى بات الوضع العام في البلاد العربية والإسلامية أقرب إلى الاستقلال، ظهر جليا أن الاستعمار يعود من جديد؛ ليفرض هيمنته على المنطقة، من خلال الهيمنة السياسية والعسكرية.
إسرائيل عنوان الاستعمار
كان من الواضح أن مرحلة الاستعمار لم تنته، فقد بقيت دولة الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة، وهي الدولة المحتلة التي تركها الاحتلال الغربي لتقوم بدور الشرطي المهيمن على المنطقة، ولم تدرك حركات التحرر الوطني التي قادت عملية مقاومة الاستعمار الغربي في النصف الأول من القرن العشرين وما بعده، أنها لا يمكن أن تجلي القوات العسكرية عن بلادها، وتترك العدو الإسرائيلي قابعا في أرض فلسطين.
تجلى هذا في الحروب المتتالية التي شنها العدو الإسرائيلي بعد ذلك، والتي استمرت حتى حربه على قطاع غزة في نهاية عام 2008، وغاب عن مشاريع التحرر، والتي حملت عنوان القومية العربية أو الناصرية، أن بقاء العدو الإسرائيلي في المنطقة، هو استمرار للاستعمار الغربي، عن طريق وكيله في المنطقة، أي دولة الاحتلال الإسرائيلي.
وغاب عن قيادات المنطقة أن الاستعمار الاستيطاني، والذي يحتل الأرض بشعب غريب عنها، هو أسوأ أنواع الاستعمار؛ لأنه استعمار جاء ليبقى متحصنا بالملايين من البشر الذين يستوطنون الأرض.
تقليد العدو
لم تكن تلك هي المشكلة الوحيدة، فقد غاب عن حركات التحرر الوطني، أهمية تحقيق الاستقلال الحقيقي عن الدول الغربية الاستعمارية، وظلت حكومات ما بعد الاستقلال تتجه يمينا ويسارا، بحثا عن حليف غربي في مواجهة طرف غربي آخر.
وباتت القضية كأن المنطقة تتمتع بنوع من الاستقلال بسبب الخلاف بين معسكرات المنظومة الغربية الدولية، أي بين معسكرها الشرقي المتمثل في الاتحاد السوفيتي، ومعسكرها الغربي المتمثل في أوروبا ومن بعدها الولايات المتحدة الأمريكية.
وغاب أيضا عن جيل التحرر الوطني، أن مسألة التحرر لا تتحقق إلا بالنهضة، والنهضة لا تتحقق من خلال تقليد الدول المتقدمة، أو الحضارة المتقدمة، وأن مجرد تقليد القوى، والذي كان مستعمرا للبلاد، كفيل بفتح الباب ثانية أمام المستعمر حتى يعود ويفرض هيمنته على البلاد مرة أخرى.
فقد كان التحرر من السيطرة العسكرية غير كاف في حد ذاته؛ لأن جيل التحرر الوطني نفسه -وأغلبه من رجال العسكرية- حمل حلم تقليد المستعمر ومحاولة تحقيق ما حققه من تقدم.
وبهذا ظل نموذج المستعمر الحضاري هو المسيطر على جيل التحرر الوطني في القرن العشرين، وعندما يسيطر النموذج الحضاري للمستعمر، يفتح الباب واسعا للمستعمر حتى يفرض سيطرته بأشكال متعددة.
وقد أدرك الغرب تلك القضية، بل عمل ومنذ خروج قواته في منتصف القرن العشرين، على ترويج نموذجه الحضاري، حتى يعيد استعمار البلاد التي خرج منها من خلال نموذجه الحضاري.
وعندما يسيطر عقل المستعمر على عقل الحاكم في بلادنا، يكون المستعمر حاضرا في عمق بنية الدولة والنظام السياسي، وعمق توجهات الأنظمة الحاكمة، حتى وإن كان قد رحل بقواته العسكرية.
خطة الاستعمار مستمرة
والمستعمرون أنفسهم، أي الدول الغربية، لم تخرج من المنطقة بدون رجعة، أي إنها لم تنه خطتها للسيطرة على المنطقة، بل إنها أنهت فقط مرحلة من مراحل الاستعمار، وهي مرحلة الاستعمار العسكري المباشر، ثم تركت دولة الاحتلال الإسرائيلي، لتكون القوة العسكرية المركزية التي تستند عليها الدول الغربية في السيطرة على المنطقة بعد ذلك.
فلم تغير الدول الغربية موقفها السياسي والحضاري، والداعي إلى فرض هيمنتها على العالم، على أساس تصورها بأن تقدمها يؤهلها لحكم العالم، وأن تفوقها هو تفوق نوعي عرقي، يجعلها مؤهلة لفرض سيطرتها على العالم.
وتلك النظرة العنصرية الاستعمارية، هي صلب الموقف الغربي تجاه دول العالم غير الغربي، وهي أساس الحملات الاستعمارية المختلفة، وهي في نفس الوقت، ما زالت الركيزة الأساسية للسياسات الغربية تجاه العالم.
فالغرب يؤمن بأن تقدمه لن يستمر إلا بالسيطرة على العالم، ومنع أي حضارة أخرى من التقدم أو النهوض، وتلك حقيقة مهمة، فالسياسات الغربية منذ نهاية مرحلة الاستعمار التقليدي وقبلها قامت كلها على الحد من قدرة دول العالم على تحقيق النهضة والتقدم، وظهر هذا في النهب المنظم للموارد الطبيعية، وللطاقات البشرية، والذي أخذ أشكالا مختلفة، ولكن لم تسلم منه معظم دول العالم غير الغربي.
نخلص من هذا، أن مشروع الهيمنة الغربية على العالم لم ينته، ولكن حركات التحرر الوطني التي قادت التغيير في القرن العشرين، لم تدرك حجم وأبعاد هذا المشروع، ولم تدرك وسائله وغاياته.
ففكرة سيادة الحضارة الأقوى في التصور الحضاري الغربي تقوم على فرض النموذج الحضاري الغربي على العالم، بحيث يكون هو النموذج المهيمن الوحيد، وبهذا تكون الدول الغربية هي دول المركز والمنشأ، أي الدول المركزية في النموذج الغربي، والدول التي أقامت هذا النموذج، ومن خلال تعميم النموذج الغربي الحضاري، يتم تعميم الهيمنة الغربية السياسية والاقتصادية والعسكرية، والتي تتوج في النهاية بالهيمنة الحضارية.
ولأن مرحلة التحرر الوطني لم تنتج تحررا من النموذج الغربي، ولم تنه التحالف مع الغرب، شرقه أو غربه، ولم تستطع مقاومة دولة الاحتلال الإسرائيلي، والمهم أنها لم تدرك أن التحرر الوطني لن يتحقق إلا بنهاية دولة الاحتلال الإسرائيلي، لهذا كله نرى أن مرحلة التحرر الوطني قد فشلت في تحقيق التحرر، وأعادت البلاد العربية والإسلامية إلى مرحلة استعمار جديد، تقوده أمريكا ومعها حليفها الإستراتيجي إسرائيل، وتستخدم فيه وسائل الاستعمار المباشر، كما حدث في احتلال العراق وأفغانستان، أو وسائل الاستعمار السياسي غير المباشر، كما يحدث مع معظم الدول العربية والإسلامية، ويرتكز في النهاية على حماية دولة الاحتلال الإسرائيلي، باعتبارها المركز القوي والسند الحقيقي لعملية الهيمنة على المنطقة.
نهاية جيل وميلاد آخر
هنا جاءت حرب إسرائيل على قطاع غزة، لتثبت بالدليل الحي أن جيل التحرر الوطني قد سقط في يد الاستعمار مرة أخرى، وأن الأجيال التي أعقبته وتسلمت مهام السلطة منه قد سقطت في يد الاستعمار مرة أخرى.
وأهمية حرب إسرائيل على قطاع غزة، أنها مثلت حربا دموية عنيفة ضد شعب فلسطين من سكان القطاع، وكانت محاولة لتدمير إرادة الشعب وإرادة المقاومة، وكانت عملية تهدف إلى إخضاع الشعوب العربية والإسلامية، وهزيمة روح المقاومة.
بمعنى آخر، كانت حرب إسرائيل على قطاع غزة، هي حرب على كل الأمة العربية والإسلامية، تهدف إلى ضرب هذه الأمة، وإلحاق الهزيمة العسكرية والسياسية والحضارية بها.
ومع هذا، نجد أن النظم العربية والإسلامية الحاكمة، في غالبها، ظلت في موقف المتفرج في أحسن الظروف، وظهر العديد منها متواطئ ومشارك في تلك المذبحة، مما يؤكد على خلل حقيقي أصاب النظم الحاكمة، وتمثل في أنها لم تعد تدافع عن الأرض أو حتى الشعب، ولم تعد تحمي أمتها بأي صورة من الصور، بل أصبحت في غالبها جزءا من حلف الاستعمار نفسه، أي جزءا من الحلف الأمريكي الصهيوني.
وفي نفس مشهد الحرب على قطاع غزة، وجدنا على الجانب الآخر حركات المقاومة الفلسطينية، تقودها حركات المقاومة الإسلامية، وعلى رأسها حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي، ومع حركات المقاومة، ظهرت إرادة المقاومة الهائلة لدى سكان قطاع غزة، والقدرة الهائلة على الصمود والبقاء.
ومع قوى المقاومة، وجدنا ملايين من الشارع العربي والإسلامي، تخرج تأييدا للمقاومة ونصرة لها، وظهر مشهد الأمة جليا واضحا، فهي أمة التحرر والمقاومة، وهي التي تقود حركة المقاومة ضد العدو، وترفض تخاذل الدول والحكومات والأنظمة الحاكمة.
فتأكد بما لا يدع مجالا للشك أن الأنظمة الحاكمة القائمة، والنموذج السياسي الذي أقامته، لم يعد يعبر عن الأمة بأي قدر من الأقدار، ولم يعد يدافع عنها أو يحميها، فلم تظهر النخب الحاكمة في البلاد العربية والإسلامية، بوصفها وكيلا عن الأمة تمثلها وتحميها وتحرسها، بل ظهر أن الأنظمة الحاكمة غريبة عن الأمة، غربة العدو نفسه عن الأمة.
غياب الاستقلال الحضاري
تلك هي النهاية المؤلمة لتاريخ حركة التحرر الوطني في البلاد العربية والإسلامية، وهي قد تكون نتاج خطأ رواد حركة التحرر الوطني، أو جريمة من استلموا منهم مقاليد السلطة، ولكنها في كل الحالات، نتاج خطأ جوهري حدث في عملية تأسيس حركات التحرر الوطني، ومنها حركة التحرر الوطني الفلسطيني فتح، ومنظمة التحرير الفلسطينية، ومنها أيضا النظام الناصري في مصر، تمثل في أنها كانت حركات تحرر من الهيمنة العسكرية، ولم تكن حركات تحرر شامل.
فقد كانت حركات ترفع شعار الاستقلال من الاحتلال العسكري، واستقلال القرار السياسي، ولكنها لم ترفع شعار الاستقلال الحضاري، ولم ترفع شعار استقلال العقل العربي والإسلامي، فسقطت في فخ الاستلاب الحضاري، فضاع الاستقلال السياسي، وضاع معه الاستقلال العسكري.
وهنا بات واضحا، أن البعد الحضاري هو الجوهر الغائب من تاريخ التحرر الوطني في القرن العشرين، وهو الجوهر الحاضر في معركة المقاومة والتحرير في القرن الحادي والعشرين، والتي تقودها حركات المقاومة الإسلامية.
التحرر الحضاري
هنا تبدأ مرحلة جديدة من التاريخ الحضاري العربي الإسلامي، بل وتبدأ مرحلة جديدة من التاريخ الحضاري البشري، فحركات المقاومة الإسلامية تحمل لواء التحرر الوطني والتحرر الحضاري، أي تحرير الأرض وتحرير الهوية، وتحمل معها مشروعا للاستقلال الشامل، فهو مشروع للاستقلال السياسي والعسكري والاقتصادي، وهو قبل كل هذا مشروع للاستقلال الحضاري.
وهنا تبدأ معركة جديدة، بدأت بالطبع منذ عقود، ولكنها ظهرت جلية في الحرب على قطاع غزة، وهي معركة مع العدو الخارجي، ومع القوى الداخلية التي استلب العدو عقلها، وهيمن على فكرها، واستعمر إرادتها، وسيطر على قرارها.
تلك هي النخب التي وقعت فريسة لهيمنة العقل الغربي، والتي أصبحت تسيطر على الحكم في البلاد العربية والإسلامية، أو تتحالف مع نخب الحكم في تلك البلاد.
وما بين من وقع فريسة هيمنة القرار السياسي الغربي، ومن آمن بالمشروع الغربي عن قناعة، ومن التحق بالقرار والمشروع الغربي عن واقعية استسلامية له، ومن رضي بالأمر الواقع حفاظا على مقعد الحكم، أصبحت النخب المهيمنة على السلطة في بلادنا العربية والإسلامية ملتحقة أساسا بمشروع الاستعمار الحضاري الغربي، وجزءا لا يتجزأ منه، بل أصبحت في الواقع هي القوى التي تحول بين الأمة وبين مقاومة العدو، وهي التي تمنع وحدة الأمة، وهي التي تحاصر الحركات الإسلامية، وهي أيضا التي تحاصر حركات المقاومة المسلحة.
لهذا سوف يصبح العنوان الأبرز للمرحلة القادمة في التاريخ العربي والإسلامي، هو عنوان الاستقلال الحضاري، وهي عملية تبدأ بتحرير البلاد العربية والإسلامية مما تسرب لها من خضوع للقوى الغربية، متجسدا في نخب ومؤسسات حاكمة، وتمتد هذه العملية إلى مقاومة العدو الخارجي، خاصة المشروع الأمريكي الصهيوني.
والحقيقة أن قضية دولة الاحتلال الإسرائيلي أصبحت هي القضية المحورية، فمعركة تحرير إرادة الأمة وتحقيق استقلالها الحضاري تبدأ في أرض فلسطين، وفي مواجهة دولة الاحتلال الإسرائيلي ومشروعها السياسي الذي يهدف إلى القضاء على الاستقلال الحضاري للأمة العربية والإسلامية، والذي يهدف إلى منع توحد الأمة، والقضاء على قدرتها على النهوض.
ومن هنا تبدأ الحركة الإسلامية في تولي دورها القيادي لتحرير الأمة، وتستكمل مشروعها للتحرير الحضاري، ومقاومة العدو، وهو ما يعني أهمية التحرك من أجل تحقيق فعل المقاومة والنهضة، فالمقاومة هي القادرة على صد العدو الخارجي، والنهضة في حقيقتها أعمق درجات المقاومة؛ لأنها تعني استعادة الهوية وتحقيق التقدم، كما تعني التمسك بالقيم الحضارية، وتجديد الحياة.
وقوة الأمة تتمثل في قدرتها على التمسك بالهوية وتجديد حياتها، وعلى إرادتها المقاومة لأي عملية هيمنة خارجية، أو أي شكل من أشكال الاستعمار.
وبهذا تكون المنطقة قد دخلت بالفعل في مرحلة التحرر الحضاري، مع نهاية جولة من جولات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وعلى الشعب الفلسطيني.
مفكر مصري.
منقول

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق