السبت، 4 أبريل 2009

دبلوماسية القمم العربية .. المنشأ والمسار والمآل


عمّار علي حسن
أولا: دبلوماسية القمة.. دلالات المصطلح ومساره ثانيا: السياسة من أعلى.. خبرة القمم العربية ثالثا: أسباب فشل معظم القمم العربيةعرض السياق وتحليل المواقف رابعا: شروط تفعيل "دبلوماسية القمة"وإنجاح "العمل العربي المشترك"
توطئةرغم صعوبة الحديث عن دور عربي مؤثر على صعيد العلاقات الدولية، في ظل سعي القوى الكبرى الدائب والدائم لتهميش العرب واحتوائهم (1)، فإن العالم العربي ظل، على مدار تاريخه المديد، مسرحا لتشكيل التوازنات القائمة بين مختلف المراكز السياسية الدولية، المتنافسة والمتصارعة، سواء خلال فترة القطبية الثنائية أو تحت عباءة نظام متعدد الأقطاب(2). وحتى حين انفردت الولايات المتحدة بتسيد العالم عسكريا واقتصاديا، فإن "النظام الإقليمي العربي" (3) لم يتخل عن وظيفته تلك.

"بات من الضروري إصلاح حال النظام الإقليمي العربي، سواء عبر تفعيل دبلوماسية القمة وقبلها تنشيط مجالات وأدوات ومؤسسات ممارسة السياسة العربية المشتركة على المستوى الأدنى، وذلك من خلال بناء رؤية متماسكة أو مبادئ جلية قابلة للتطبيق"فالمنطقة العربية بدت ذات أهمية بالغة للأطراف المتحالفة في الحرب العالمية الثانية، والتي كانت في سباق محموم بغية تحديد أدوارها في النظام الدولي الذي كان في طور التكوين آنذاك.
(4)

والحرب التي دارت رحاها على أرض مصر عام 1956، حيث العدوان البريطاني الفرنسي الإسرائيلي، كانت نقطة تحول في النظام الدولي من خلال إتيانها على الأحلام الإمبراطورية التي كانت لا تزال تراود بريطانيا وفرنسا في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، إذ برزت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي قطبين رئيسيين معترف بهما من قبل المجتمع الدولي، بعد أن أجبرا الأطراف الثلاثة على وقف العدوان.

وكان هذا التدخل من قبل الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بمثابة تحذير لبريطانيا وفرنسا أن وضعهما على الساحة الدولية قد تغير تماما.
(5) ثم تأكدت هذه الخصوصية في عدة أحداث ووقائع، حتى جاءت حرب أكتوبر عام 1973 لتغذي عملية التحول من الحرب الباردة إلى الوفاق بين القطبين الكبيرين. (6)

ومع اندلاع حرب الخليج الثانية في 15 يناير/ كانون الثاني 1991، والتي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي، تم الإعلان النهائي عن ميلاد نظام دولي جديد، يقوم على انفراد قطب واحد بقوة تمكنه من أن يسّير دفة أمور كثيرة في العالم المعاصر.

وإثر وقوع حادث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 وجدت الدول العربية نفسها في قلب التداعيات التي ترتبت عليه، بدءا باتهام "تنظيم القاعدة" الذي يشكل "الأفغان العرب" الجزء الأكبر من أعضائه وقدراته المالية والتخطيطية، وانتهاء بوضع تنظيمات ودول عربية في فوهة المدفع الأميركي في إطار الحملة التي تقودها واشنطن على "الإرهاب الدولي"، مرورا بحزمة من السياسات والتدابير الأمنية التي أخذت شكل "مطالب" تقدمت الإدارة الأميركية بها إلى دول عربية عديدة من أجل تنفيذها، ووصلت إلى حد الضغوط والتهديدات، في كثير من الحالات، وانتهى الأمر باحتلال العراق عام 2003.

لتعود الأرض العربية منذ ذاك الحدث لتؤدي وظيفتها التقليدية، لكنها هذه المرة كـ"فاعل" وليس مجرد "قابل"، حيث لم تحقق الولايات المتحدة على أرض الرافدين النجاح الذي بشَّرت به وتوقعته، وساهم احتلالها العراق في توعكها اقتصاديا، فبات مفكروها الإستراتيجيون يتحدثون بإسهاب عن "حدود القوة" وقرر رئيسها الجديد باراك أوباما "الانسحاب المسئول" من العراق.

وطيلة الزمن الحديث والمعاصر لم يتمكن أحد في العالم من أن يقلل من الأهمية "التقليدية" للعالم العربي والتي يستمدها من التاريخ والجغرافيا، أو "الموقع الإستراتيجي والجاذبية الجيو اقتصادية"،
(7) لكن العرب أنفسهم يعيشون في إحباط مزمن حيال نظامهم الإقليمي، ويعزون ذلك إلى السلطات الحاكمة التي اعتلت العروش والجيوش بعد رحيل الاستعمار، ويبرهنون على صدق مشاعرهم المحبطة بالحصاد الهزيل للقمم العربية المتتابعة لاسيما في العقود الثلاث الأخيرة.

أولا: دبلوماسية القمة.. دلالات المصطلح ومساره

رغم أن مصطلح "دبلوماسية القمة"
(8) أو "الدبلوماسية المباشرة" يبدو من ابتكارات القرن العشرين بعد أن صكه ونستون تشرشل في خطاب شهير له عام 1950 فإن ممارسة هذا العمل السياسي ذو المستوى الشخصي الرفيع تعود إلى زمن أبعد بكثير، إذ يحفل تاريخ الإنسانية بوقائع لا تحصى عن استخدام هذا الأسلوب، لاسيما أيام الحكم المطلق للملوك والسلاطين، حين كانت شخصية الدولة تتماهى في شخصية الحاكم تماما إلى درجة دعت ملك فرنسا لويس السادس عشر إلى أن يقول ذات يوم: "أنا الدولة".

"من شروط تفعيل العمل العربي المشترك الأخذ بمبدأ من الوحدة إلى التنسيق البناء، وهذا لا يعني إسقاط فكرة الوحدة باعتبارها غاية لجماهير عربية غفيرة، لكن التعامل معها على أنها معادلة صفرية، إما أن تكون أو لا شيء آخر من أشكال التعاون، هو الخطأ بعينه، الذي وقع فيه كثير من العرب عقودا طويلة"وتوارت "دبلوماسية القمة" مؤقتا مع ظهور أنظمة الحكم الديمقراطية في أوروبا، حتى أعادها الرئيس الأميركي ودرو ويلسون إلى الحياة عام 1919 أثناء مؤتمر السلام الذي أعقب الحرب العالمية الأولى واستضافته باريس.

وكان لجوء ويلسون إلى هذا الأسلوب مرده الارتياب في الدبلوماسية السرية التي يمارسها رجال يحترفون إدارة السياسة الدولية من خلف الستار أو حتى أمامه، وكذلك طبيعة ويلسون النفسية ذاتها حيث كان لديه ميل جارف إلى العمل المنفرد وفرض إرادته على الآخرين، ورفض أي سلطة فوق سلطته.
(9)

ومنذ ذلك التاريخ باتت اجتماعات القمة، على مستوى قادة الدول، أمرا معتادا في الساحة الدبلوماسية الدولية. فلمّا جاءت الحرب الباردة صار هناك اقتناع راسخ لدى العالم أجمع في أن اجتماعات القمة ضرورة للحفاظ على السلم والأمن الدوليين.

وتراكم ممارسة دبلوماسية القمة والتفكير حولها تهدينا حزمة من المعطيات التي تفيد كثيرا في تحليل هذه الظاهرة، على المستوى العربي، والتي لا تخرج في الغالب الأعم عما يلي:

أ - تكمن القيمة الأساسية لدبلوماسية القمة فيما تنطوي عليه من أبعاد وإيحاءات نفسية ومعاني رمزية، أكثر من انطوائها على نتائج سياسية حاسمة وناجزة.

ب - يدور هذا النوع من الدبلوماسية حول أشخاص قلائل، هم قادة الدول، ومن ثم يظل دوما أسير خبرات هؤلاء ومعارفهم، وسماتهم النفسية، وقدراتهم الفردية، وكذلك أسير الظروف المؤدية إلى تعاظم دور قائد الدولة في صنع السياسة الخارجية،
(10) ومنها حجم اهتمامه بالسياسة الخارجية، وأسلوب وصوله إلى سدة الحكم، ومدى تمتعه بخصائص كارزمية من عدمه، ومقدار عمق تجربته السياسية، إلى جانب الدوافع الذاتية والصفات الشخصية، التي تختلف من قائد يمتلك عقلا منفتحا وآخر موصوم بعقل منغلق، وبين قائد يسعى بشكل محموم إلى تحقيق ذاته، وآخر يفتقد إلى الطموح.

ج - يتوقف نجاح دبلوماسية القمة من عدمه على ما بُذل من جهد دبلوماسي على مستوى أدنى في سبيل إنضاج لحظة سياسية وتاريخية أمام اتفاق نهائي يضع القادة البصمات الأخيرة عليه. أما حين يلتقي القادة لمناقشة التفاصيل، أو البدء من نقطة الصفر، فإن فرص نجاحهم تكون غاية في الضعف والتهالك، بل قد يؤدي مثل هذا اللقاء إلى انهيار الموقف برمته، وانحداره إلى درجة أسوأ مما كان عليه.

ثانيا: السياسة من أعلى.. خبرة القمم العربية

عرف العرب المعاصرون دبلوماسية القمة، في طورها الأخير، منذ نحو ثلاثة وستين عاما، حين التأم قادة الدول العربية في مايو 1946 بمدينة أنشاص المصرية لمناصرة القضية الفلسطينية، أعقبوها بعد عقد كامل من الزمن بقمة بيروت لدعم مصر في مواجهة "العدوان الثلاثي" 1956.


لكن القمم العربية لم تتم في سياق "مؤسسة سياسية"، أي تعقد تحت مظلة جامعة الدول العربية بصفة رسمية، سوى عام 1964 الذي شهد قمتين متتاليتين سعيتا إلى تعزيز التضامن العربي، وتزكية التوجه القومي، والتصدي للتحديات الدولية التي تجابه العرب، والترحيب بمنظمة التحرير الفلسطينية. كما لم تصبح القمة دورية سوى عام 2000 الذي استضافت فيه القاهرة قمة طارئة لبحث سبل دعم انتفاضة الأقصى.


تطور تاريخي للقمم العربية

م/ تنازلي
القمـــة
تاريخها
نوعها
الدولة المضيفة
31
مؤتمر قمة دمشق
28/3/2008
عادى
سورية
30
مؤتمر قمة الرياض
21/3/2007
عادى
السعودية
29
مؤتمر قمة الخرطوم
23/3/2006
عادى
السودان
28
مؤتمر قمة الجزائر
22/3/2005
عادى
الجزائر
27
مؤتمر قمة تونس
22/5/2004
عادى
تونس
26
مؤتمر قمة شرم الشيخ
1/3/2003
عادى
مصر
25
مؤتمر قمة بيروت
28/3/2002
عادى
لبنان
24
مؤتمر قمة عمان
28/3/2001
عادى
الأردن
23
مؤتمر القمة العربي غير العادي
23/10/2000
طارئ
مصر
22
مؤتمر القمة العربي غير العادي
21/6/1996
طارئ
مصر
21
مؤتمر القمة العربي غير العادي
9/8/1990
طارئ
مصر
20
مؤتمر القمة العربي غير العادي
28/5/1990
طارئ
العراق
19
مؤتمر القمة العربي غير العادي
23/5/1989
طارئ
المغرب
18
مؤتمر القمة العربي غير العادي
7/6/1988
طارئ
الجزائر
17
مؤتمر القمة العربي غير العادي
8/11/1987
طارئ
الأردن
16
مؤتمر القمة العربي غير العادي
7/8/1985
طارئ
المغرب
15
مؤتمر القمة العربي الثاني عشر
25/11/1981
عادى
المغرب
14
مؤتمر القمة العربي العاشر
20/11/1979
عادى
تونس
13
مؤتمر القمة العربي التاسع
2/11/1978
عادى
العراق
12
مؤتمر القمة العربي الثامن
25/10/1976
عادى
مصر
11
مؤتمر القمة السداسي
16/10/1976
طارئ
السعودية
10
مؤتمر القمة العربي السابع
26/11/1974
عادى
المغرب
9
مؤتمر القمة العربي السادس
26/11/1973
عادى
الجزائر
8
مؤتمر القمة غير العادي
27/9/ 1970
طارئ
مصر
7
مؤتمر القمة العربي الخامس
23/12/1969
عادى
المغرب
6
مؤتمر القمة العربي الرابع
29/8/1967
عادى
السودان
5
مؤتمر القمة العربي الثالث
13/9/1965
عادى
المغرب
4
مؤتمر القمة العربي الثاني
5/9/1964
عادى
مصر
3
مؤتمر القمة العربي الأول
13/1/1964
عادى
مصر
2
قمة بيروت
13/11/1956
عادي
مصر
1
قمة أنشاص
28/5/1946
طارئ
مصر

* المصدر: موقع جامعة الدول العربية (بتصرف)
http://www.arableagueonline.org/las/arabic/conference.jsp

وعلى مدار ما يربو على ستة عقود، التقى القادة العرب في واحد وثلاثين قمة، عشرون منها كانت اعتيادية والإحدى عشر الباقية كانت طارئة أو غير اعتيادية. ومن يمعن النظر في هذه القمم، متقاربة أو متباعدة، دورية أو استثنائية، يجدها تتصف بعدة سمات، يمكن ذكرها على النحو التالي:

1- مثل الصراع العربي - الصهيوني القاسم المشترك بين أعمال القمم كافة، سواء بشكل تام حين انعقدت قمم معينة لبحث مباشر لمشكلات ترتبت على عدوان إسرائيلي، أو بشكل جزئي حيث كان هذا الصراع يمثل إحدى القضايا الأساسية التي تنظرها تلك القمم، سواء مباشرة أو بصيغة غير مباشرة.

2- جاءت معظم هذه القمم، إن لم يكن جميعها، في إطار "رد الفعل" لمبادرات أو أزمات أثارتها قوى إقليمية أو دولية، وخلت من سياسة "الفعل" التي تعتمد على الهجوم الدبلوماسي واتخاذ الإجراءات الاحترازية لمواجهة تهديد في طور التكوين، إما لقتله في مهده، أو على الأقل لصده حين يُترجم في عمل مضاد للمصالح العربية.

"لدفع العمل العربي إلى الأمام لابد من التحول من مجرد التساند بالخطاب إلى التآزر بالمصالح، فقد درجت الأنظمة الرسمية في أوقات عصيبة مرت بها إحدى الدول العربية أو بعضها على الاكتفاء بالمؤازرة الكلامية، دون أي فعل ملموس، يساند من ألمت به كارثة أو وقع في أزمة سياسية أو تعرض لعدوان"
3- لم يتوفر عزم كاف يقود إلى معالجة جذرية وشاملة للأزمات التي تواجه هذه القمم، بقدر ما كانت النية- المسكوت عنها غالبا- ترمي إلى تخفيف حدة الضغوط المتولدة عن تلك الأزمات والتي تضغط على أعصاب النظام الإقليمي العربي. فالعرب تمكنوا باقتدار من أن يتبعوا المنطق الذي يقول: "سكِّن تسلم" فيقومون داخل القاعات الفخمة التي تقام بين أروقتها مؤتمرات القمة بتمرير الأمور على نحو سريع، وفي كلمات عاجلة متتابعة، يقدم أغلبها في ثوب بياني بلاغي لافت، وعلى أساس القواسم المشتركة، والأمور الثابتة المتفق عليها، اللهم إلا إن حدثت بعض المناوشات التي بات الصحفيون المتابعون للقمة ينتظرونها ليصنعوا العناوين (المانشيتات) المغلفة ببعض ما هو غريب ولافت وطريف أحيانا، بعيدا عن الرتابة المعتادة.

4- لم تلب معظم هذه القمم طموحات الجماهير العربية، ولم تحقق آمالها، ولم تتجنب مخاوفها من تحول لقاءات القادة العرب إلى منتدى لممارسة الجدل السوفسطائي، واستعراض المهارات اللفظية الإنشائية، وعجز عن تطوير الواقع المعيش بما يكافئ طبيعة اللحظات التاريخية الصعبة التي تنعقد القمم في أتونها.

5- مع توالي الزمن، تحولت القمم العربية إلى لقاءات رمزية، لا تتخطى حدود "محاولة سد الذرائع"، وتلبي بعض احتياج الطرف العربي المتأزم، الذي يطلب عقد القمة تصريحا، أو يدفع في هذا الاتجاه تلميحا، إلى المساندة المعنوية والتعاطف، إلى جانب المشاركة في الغرم عن بعد، مثل تقديم الدعم المادي لما خربه العدوان الإسرائيلي في لبنان وفلسطين.

6- يتجه الخط البياني لفاعلية القمم العربية إلى انحدار واضح مع مرور الزمن، باستثناء قمم محددة اتجه فيها هذا الخط إلى أعلى، مثل التي انعقدت في الخرطوم عقب هزيمة يونيو 1967 والتي أطلقت لاءات ثلاثة شهيرة في وجه الكيان الصهيوني: (لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف) وتلك التي انعقدت في الجزائر عقب انتصار أكتوبر/ تشرين 1973 وأكدت استحالة فرض حل على العرب، وقمة الرباط 1974 التي وضعت أسس العمل العربي المشترك، وفرضت الالتزام باستعادة حقوق الشعب الفلسطيني، واعتماد منظمة التحرير ممثلا شرعيا ووحيدا له، وقمة الدار البيضاء غير العادية 1989 التي أعادت مصر إلى عضوية جامعة الدول العربية، وبحثت قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وتشكيل لجنة لمساعدة لبنان على الخروج من نفق الحرب الأهلية المظلم.

ثالثا: أسباب فشل معظم القمم العربيةعرض السياق وتحليل المواقف
حين يواجه أي طرف رشيد مشكلة ما فإنه يقوم أولا بتوضيح أهدافه أو قيمه أو مراميه، ثم يرتبها في ذهنه، وبعدها يضع قائمة بكل الطرق المهمة الممكنة، أو السياسات التي بوسعه أن يصنعها، لتحقيق هذه الأهداف، ويبحث النتائج المهمة التي سوف تترتب على كل واحدة من السياسات البديلة، ليقارن تلك النتائج المترتبة على كل سياسة بديلة مع الغايات التي يصبو إليها، ومن هنا يكون بوسعه أن يختار السياسة ذات النتائج الأقرب إلى أهدافه.
(12)
"سيطرت في السنوات الماضية حالة من الانتهازية في السياسات الخارجية للعديد من الأقطار العربية ولذا فدون تلمس روح الفريق في السياسات الخارجية لكل قطر عربي على حدة، ستستمر هذه الحالة من التشرذم، التي تعود، في خاتمة المطاف، بالخسارة على النظام الإقليمي العربي برمته
"ومن دون اتباع استراتيجية "الرشد الكامل" تلك أو قدر كاف منها، يفشل هذا الطرف في صناعة قرار رشيد ومؤثر. وقد خالف "العمل العربي المشترك" تلك الخطوات في أغلب الأحيان. فالنشاطات التكاملية العربية تتعثر في مسيرتها، ومعظمها لا يتجسد ماديا على أرض الواقع، بفعل سلوك متعمد من قبل كل قطر عربي على حدة، وبحكم العوامل والعناصر التي تغذي التنافر العربي ومنها حمولات الميراث التاريخي، والبنية الاجتماعية المركبة، وتباين الخبرات الاستعمارية، وتفاوت الحجم والقدرة بين الكيانات السياسية العربية، وترسيخ تنشئة سياسية قمعية في المعارف والقيم والتوجهات، وضعف درجة الاتصال وكثافته بين الشعوب.

علاوة على عوامل خارجية منها: آثار الصراع الدامي ضد إسرائيل، وديمومة التنافس والتناحر الدولي في المنطقة العربية، وحرص القوى الكبرى على عدم تحول العالم العربي إلى كيان واحد قوي، واستسلام الدول العربية للتوزع على إستراتيجيات هذه الدول التي تتصارع بطبعها،
(13) ما يقود بالتبعية إلى نشوب صراعات عربية ـ عربية، مثل تلك القائمة الآن بين ما يسمى "محور الممانعة" و"محور الاعتدال".

هذا الوضع ليس سوى استمرار لحال قديم متجدد، إذ لم يخل النظام العربي في أية مرحلة من مراحل تطوره من ظاهرة النزاع بين أعضائه،
(14) في ظاهرة "بندولية" صارت عيبا عربيا ظاهرا ومتأصلا.
فالتفاعلات العربية ـ العربية تنتقل من تعاون إلى صراع، بشكل منتظم، وفي زمن متفاوت، يبلغ حده الأدنى أقل من سنتين، حين انتقل النظام العربي من الصراع إلى التضامن ما بين مطلع عام 1966 وحلول أغسطس/ آب 1967 الذي شهد قمة الخرطوم الفارقة. أما حده الأقصى فيبلغ عشر سنوات، حيث انتقل العرب من التباعد عام 1977 إلى التقارب عام 1987.
(15)

وإذا عدنا إلى فترة أعمق زمنيا نجد أن تضامن العرب عام 1948 في ظل سعيهم إلى منع قيام "دولة إسرائيل" لم يستمر سوى سنتين، إذ اختلفوا عام 1950 حول ضم الملك عبد الله الأول الضفة الغربية الفلسطينية إلى المملكة الأردنية، ثم هدأ الخلاف أو تم تسكينه إلى أن تجدد عام 1955، وبشكل حاد، حول الارتباط بسياسة الأحلاف الغربية في المنطقة. لكن العرب عادوا إلى التضامن مع مصر إبان العدوان الثلاثي عليها عام 1956، ليختلفوا من جديد حول قضايا عدة في مطلعها عودة الارتباط بسياسات غربية في ظل مشروع الرئيس الأمريكي إيزنهاور عام 1957.
(16)

وتعمق الخلاف عام 1959 بين الجمهورية العربية المتحدة والعراق، ثم بين الرئيس جمال عبد الناصر وحزب البعث في أوائل الستينيات، حتى حدث صدام مسلح بين القوى الثورية العربية والقوى المحافظة حول الثورة اليمنية التي اندلعت عام 1962، لندخل إلى ما تسمى "الحرب العربية الباردة". ونشب صراع آخر بين الجزائر والمغرب عام 1963.

لكن هذه الصراعات هدأت استجابة لدعوة عبد الناصر إلى العرب ليتضامنوا في وجه التهديد الإسرائيلي لمياه نهر الأردن، فعادت العلاقات العربية إلى انفراج لم يستمر سوى سنتين، ليعود الصراع في شبه الجزيرة العربية والمغرب العربي.

فلما وقعت هزيمة يونيو 1967 التأم العرب في تضامن طويل نسبيا استمر إلى عام 1977، الذي شهد خلافا مشهودا حول سياسة التسوية مع إسرائيل، انتهى بقطيعة عربية لمصر، ونقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس. وتوازى هذا مع نزاع سوري ـ عراقي بسبب الحرب بين بغداد وطهران، لتأتي قمة عمان 1987 وتشهد محاولة لتلطيف الأجواء واستعادة التضامن العربي، كُللت بعودة مصر إلى العرب عام 1989، وإنشاء كيان إقليمي عرف باسم "مجلس التعاون العربي" ضم مصر والعراق واليمن والأردن.

لكن كل هذا تبخر بغزو العراق للكويت في 2 أغسطس/ آب 1990 ليشهد النظام الإقليمي العربي واحدة من أشد انقساماته وطأة، لاسيما بعد أن انجرفت الأمور إلى الاستعانة بقوات أجنبية لتحرير الكويت،
(17) فيما بدا مقدمة طبيعية لاحتلال العراق بعد اثني عشر عاما من إخراج قواته من أرض الكويت، لتستمر الانقسامات العربية حول المسألتين اللبنانية والفلسطينية، بين توزع العرب على محورين مختلفين استجابة لرؤية إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش، وذلك في استقطاب جديد.
ومع تتابع هذه الصراعات، التي لم تحل أبدا حلا ناجزا، توالت القمم العربية، وكان من الطبيعي أن تلقي هذه الصراعات بظلالها على تلك القمم، خاصة مع سلبية العناصر التي تؤثر في إصدار القرارات العربية على المستوى القُطري، حيث هيمنة شخص واحد على القرار، وتراخي الرأي العام في الضغط على الحكام في أغلب الأوقات، وسيطرة الهاجس الأمني على عقل الأنظمة الحاكمة على ما عداه من اعتبارات، إلى جانب الضعف الاقتصادي والتشرذم الاجتماعي، وتغييب الحياة السياسية الصحية، التي تعتمد على تعددية حقيقية، وتداول للسلطة.
(18)

"اكتفاء النظام العربي الرسمي بقرارات متفرقة لا يجمعها ناظم، ولا تنبع من تصور أو مرجعية أساسية، من أجل علاج مشاكل طارئة والتعامل مع مواقف متتابعة زمنيا، قد فكك أوصال السياسات العربية، وأصابها بالتضارب في كثير من الأحوال. ولتفادي هذا الخطأ لا بد أن يكون هناك تصور إستراتيجي، ينبني على مواقف مبدئية، ويرمي إلى غايات عامة، تشارك كافة وحدات النظام العربي في رسم ملامحها الجوهرية "وإذا ما أمعنا النظر في تاريخ القمم العربية يمكن أن نخرج بنتيجة واضحة المعالم مفادها أن القمة العربية تنجح في حال توافرت ثلاثة عناصر أساسية هي:

1- تعرض النظام الإقليمي العربي لأزمة حادة تهدده بطريقة كبيرة، ما يفرض ضرورة وجود قدر مناسب من الصد والرد يحفظ لهذا النظام وجوده واستمراره، على غرار ما جرى في يونيو 1967.

ويُشترط هنا أن يقتنع القادة العرب أن بوسعهم التصدي لهذا التهديد، أما إذا كان التهديد فوق طاقتهم، كما جرى إبان الغزو الأميركي للعراق، فإنهم يقفون عاجزين عن فعل ملائم ومؤثر.

2- تعرض الأنظمة الحاكمة لضغوط خارجية تهدد بقاءها في الحكم، فعندها يتضافر القادة العرب من أجل الدفاع عن عروشهم وكراسيهم.
(19)

فرغم أن أغلب الدول العربية تبدي تبعية ظاهرة للولايات المتحدة والغرب عموما، فإن القادة العرب كشروا عن أنيابهم في قمة تونس 2004 ليرفضوا أي محاولة لفرض إصلاح سياسي من الخارج.
3- وجود قيادة سياسية "كارزمية" أو "دولة قائدة" على المستوى العربي، فقد كان بوسع جمال عبد الناصر أن يسهم بشكل إيجابي في دفع العمل المشترك في اتجاه إيجابي حين يريد، وكان بوسع الملك فيصل أن يقنع دول الخليج بوقف إمدادات النفط عن الدول التي تساعد إسرائيل في حرب 1973. وساعد وجود "دولة قائدة" وهي مصر على نجاح بعض القمم العربية. لكن غياب القيادات الكارزمية، وعدم وجود "دولة قائد" بعد أن كفت مصر عن لعب هذا الدور، بتوقيعها اتفاقية السلام مع إسرائيل،
(20) ساهم في عدم فاعلية القمم العربية.

رابعا: شروط تفعيل "دبلوماسية القمة" وإنجاح "العمل العربي المشترك"
بات من الضروري إصلاح حال النظام الإقليمي العربي، سواء عبر تفعيل دبلوماسية القمة وقبلها تنشيط مجالات وأدوات ومؤسسات ممارسة السياسة العربية المشتركة على المستوى الأدنى، وذلك من خلال بناء رؤية متماسكة أو مبادئ جلية قابلة للتطبيق.(21) وفي نقاط عشر محددة يمكن طرح هذه الرؤى على النحو الآتي:
1- من الوحدة إلى التنسيق البناء: ولا يعني هذا إسقاط فكرة الوحدة تماما، باعتبارها غاية لجماهير عربية غفيرة، لكن التعامل معها على أنها معادلة صفرية، إما أن تكون أو لا شيء آخر من أشكال التعاون، هو الخطأ بعينه، الذي وقع فيه كثير من العرب عقودا طويلة. فهناك خطوات تمهيدية يجب قطعها في الطريق إلى هذه الغاية، يشكل تراكمها نجاحا متواصلا حتى وإن لم ينته بالتوحد، أو الانصهار الكامل، فهذا أمر يبقى دوما في طور "المثال"، ولا يجب رهن كل أشكال التفاعل العربية بتحقيقه من عدمه، أو الوقوع في فخ التعامل معه على أنه "حتمية تاريخية".

2- من التساند بالخطاب إلى التآزر بالمصالح: فقد درجت الأنظمة الرسمية في أوقات عصيبة مرت بها إحدى الدول العربية أو بعضها على الاكتفاء بالمؤازرة الكلامية، دون أي فعل ملموس على الأرض، يساند من ألمت به كارثة أو وقع في أزمة سياسية أو تعرض لعدوان.

وللخروج من هذه الحالة من الضروري أن تكون هناك مصالح حقيقية بين الدول العربية، تبدأ بالاقتصادي، لتنتهي عند الإستراتيجي، مرورا بالسياسي والأمني. فمثل هذه المصالح تجعل الغرم والغنم موزعا على الجميع، أو يمس الكافة، فيكون هناك تحرك جماعي لدفع الضرر وجلب المنفعة.

3- من الفردية المفرطة إلى روح المجموع: فالسنوات التي خلت سيطرت فيها أنانية مفرطة، إن لم تكن انتهازية جلية، في السياسات الخارجية للعديد من الأقطار العربية، بل وصل الأمر إلى أن بعض هذه السياسات تعارض مع بعضها الآخر، بما جسد صراعا عربيا - عربيا غير مباشر، ناهيك عن الصراعات المباشرة. ودون تلمس روح الفريق في السياسات الخارجية لكل قطر عربي على حدة، ستستمر هذه الحالة من التشرذم، التي تعود، في خاتمة المطاف، بالخسارة على النظام الإقليمي العربي برمته.

4- من تنافر القمم إلى تجانس القاعدة: فالوصول إلى الروح الجماعية هذه تتطلب فتح الأبواب على مصاريعها أمام القاعدة "الجماهير"، لتشارك في صنع السياسات العربية البينية، أو السياسات العربية تجاه الآخر، بعد احتكار القمم "الأنظمة الرسمية" اتخاذ القرارات، وهو ما قاد إلى البؤس السياسي الراهن. وبالطبع فإن هذا لن يتحقق سوى بإصلاح ديمقراطي حقيقي، يعطي الشعوب العربية، التي كان أداؤها في السنوات الأخيرة أكثر انسجاما من أداء الحكومات، فرصا كبيرة لبناء حركة جماعية حيال القضايا الداخلية والخارجية.

5- من مصلحة الأنظمة إلى صالح الشعوب: والحفاظ على درجة الانسجام بين توجهات الشعب العربي، مهما كان انتماؤه القطري، تتطلب أن ينتقل الفعل السياسي من توخي مصلحة الأنظمة، التي تأتي الاستمرارية في مقدمة أولوياتها، إلى ابتغاء صالح الجماهير الغفيرة، وهي المسألة التي أدى تغييبها المتعمد إلى حالة التكلس السياسي التي يعيشها النظام العربي في الوقت الراهن.

6- من القلب والأطراف إلى المراكز المتعاونة: وبرز هذا التصور، عقب فجيعة احتلال العراق، وكان له مقدمات تجلت في أخذ بلدان عربية، أكبر ديمغرافيا وأقدر سياسيا، على قيادة النظام الإقليمي العربي، عبر تبني مواقف محددة، تستطيع هذه البلدان أن تقنع بقية الدول العربية بها. وهناك شروط موضوعية راهنة ترجح هذا التوجه منها التعثر النسبي الذي ينتاب العمل من خلال جامعة الدول العربية.

وقد ظل النظام العربي يعمل لسنوات طويلة على أساس الدول القائدة ومساعديها ثم الأطراف التابعة، لكن التغيرات التي طرأت على بنية هذا النظام من حيث ركائز القوة التي اكتسبتها بعض وحداته، أوجد عدة مراكز، ليس بينها تطابق في القوة والتاريخ، لكنها متقاربة نسبيا من حيث القدرة على التحرك في الخارج، وممارسة نفوذ، بدرجات معينة، على الداخل العربي. ومن ثم يفيد كثيرا قيام تنسيق مستمر وذي بال بين هذه المراكز.

7- من القابلية إلى الفاعلية: إذ اعتاد العرب على سياسة رد الفعل أو "القابلية"، وقد آن لهم الأوان أن ينخرطوا في صناعة السياسة الدولية بما يشكل حائط صد لأي سياسات تسعى إلى النيل من مصالحهم القومية.

8- من التكتيك الأعمى إلى الإستراتيجية المبصرة: فالاكتفاء بقرارات متفرقة لا يجمعها ناظم، ولا تنبع من تصور أو مرجعية أساسية، من أجل علاج مشاكل طارئة والتعامل مع مواقف متتابعة زمنيا، قد فكك أوصال السياسات العربية، وأصابها بالتضارب في كثير من الأحوال. ولتفادي هذا الخطأ لا بد أن يكون هناك تصور إستراتيجي، ينبني على مواقف مبدئية، ويرمي إلى غايات عامة، تشارك كافة وحدات النظام العربي في رسم ملامحها الجوهرية، من خلال الاتصال الرسمي والتفاعل بين النخب غير الرسمية، من مفكرين وقوى مجتمع مدني عربي.

9- من الواقعية الكسيحة إلى الخيال الكاسح: فإذا كانت الواقعية السياسية مطلوبة لاتخاذ إجراءات عملية فإن الخيال السياسي الخلاق واجب لدفع هذا الواقع إلى الأمام، مهما كانت مرارته. ويعاب على النخب السياسية العربية أنها تفتقد كثيرا الجرأة في التعامل مع المواقف، وتفتقر إلى إبداع طرق جديدة أو مبتكرة في معالجة المشكلات الراهنة. ويعود هذا بالأساس إلى تقديم الاستمرارية، مهما بلغت درجة تردي الأحوال، على ما عداها من قيم سياسية، يجب أن تتبناها الأنظمة السياسية في أي زمان ومكان وتعمل وفقها دوما.
10- من اليوم إلى الغد: وبناء هذا الخيال يقوم على عدم الاقتصار في التصور والتحرك على معطيات اليوم، بل يجب الأخذ في الاعتبار ما يحمله المستقبل من مخاطر ومكاسب عديدة، بعضها يأتي بغتة، وكثير منها يبدو متوقعا قياسا على خبرة التاريخ من جهة، وقراءة عميقة لاحتمالات المستقبل من جهة ثانية.

ولا غنى عن هذا الأمر في زمن تبني فيه الدول سيناريوهات لحركتها السياسية المستقبلية في الداخل والخارج لعدة عقود آتية من الزمن، على أن تصحح بشكل مستمر أي طارئ يمكن أن ينال من تلك الخطط، وعندها ستختفي ظاهرة "القمم الفاشلة" من الحياة السياسية العربية.
_____________
كاتب وباحث في العلوم السياسية
المصادر:

1- د. خضر عباس عطوان، "العرب والتوازنات الدولية: نحو نظام عربي فاعل"، مجلة (شؤون عربية) العدد رقم (120) شتاء 2004، ص: 103

2- عبد الفتاح الرشدان، "العرب والجماعة الأوروبية في عالم متغير"، (أبوظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية)، سلسلة "دراسات استراتيجية"، العدد رقم (12)، الطبعة الأولى، 1998، ص: 11 ـ 12

3- حول أبعاد هذا المفهوم أنظر: جميل مطر، د. علي الدين هلال، "النظام الإقليمي العربي: دراسة في العلاقات السياسية العربية"، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية)، الطبعة الثالثة،1983.
وقد ورد مصطلح "النظام العربي" في:- George Eden Krik, Contemporary Arab Politics: A Concise History, London, Methuen, 1961.

وحول عناصر تشكيل النظام الإقليمي أنظر:- James E. Dougherty & Robert L. Pfaltzgraff, Editors, Contending Theories of International Relations: A Comparative Survey, 2nd Edition, New York, Harper and Row Publishers, 1981, p: 167.

4- جميل مطر، "تأملات في السياسة الدولية"، (بيروت ـ القاهرة: دار المستقبل العربي)، 1995، ص: 159 ـ 160

5- حول علاقة العرب بالنظام الدولي في تلك الفترة أنظر: د. فواز جرجس، "النظام الإقليمي العربي والقوى الكبرى: دراسة في العلاقات العربية ـ العربية والعربية ـ الدولية، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية) الطبعة الأولى، 1997.

6- المرجع السابق، ص: 160 ـ 161

7- د. ناصيف يوسف حتي، "التحولات في النظام العالمي والمناخ الفكري الجديد وانعكاساته على النظام الإقليمي العربي"، في مجموعة مؤلفين، "الغرب وتحديات النظام الإقليمي العربي"، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية)، سلسلة كتب "المستقبل العربي"، العدد رقم (16)، الطبعة الأولى، 1999، ص: 158

8- حول مصلطح "دبلوماسية القمة" أنظر: جراهام ايفانز، جيفري نوينهام، "قاموس بنجوين للعلاقات الدولية"، ترجمة: مركز الخليج للأبحاث، (دبي: مركز الخليج للأبحاث) الطبعة العربية الأولى، 2004، ص: 714 ـ 715.

ولتطبيق المفهوم على حالات بعينها، أنظر: د. سلوى محمد لبيب، "دبلوماسية القة والعلاقات الدولية الأفريقية"، (القاهرة: دار المعارف) الطبعة الأولى، 1980

9- لمزيد من التفاصيل أنظر: - Alexander George & J. George, Woodrow Wilson and Colonel House: A Personality Study, New York, Dover Publications, 1956.

10- للتوسع في هذه الناحية راجع: د. محمد السيد سليم، "تحليل السياسة الخارجية"، (القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية/ كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ـ جامعة القاهرة) الطبعة الأولى، 1989، ص: 377 ـ 427

11- تم اقتباس السمات الثلاث الأولى مع تطويرها في المعنى والمبنى من: د. حسن نافعة، "القمم العربية: من أين؟ وإلى أين:، صحيفة الشرق الأوسط، 21 مارس 2005

12- روبرت أ. دال، "التحليل السياسي الحديث"، ترجمة: د. علا أبو زيد، مراجعة: د. علي الدين هلال، ( القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر ) الطبعة الأولى، 1993، ص: 186

13- لمزيد من التفاصيل أنظر: د. وليد عبد الحي، "معوقات العمل العربي المشترك"، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية) سلسلة (الثقافة القومية) العدد رقم (12)، الطبعة الاولى، 1987

14- د. أحمد يوسف أحمد، "النزاعات العربية ـ العربية"، مجلة (المستقبل العربي) العدد رقم (207) مايو 1996، ص: 102

15- حول التطور التاريخي للصراعات العربية ـ العربية وتحليل أسبابها ودوافعها وأنماطها أنظر: د. أحمد يوسف أحمد، "الصراعات العربية ـ العربية 1945 ـ 1981 : دراسة استطلاعية"، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية) الطبعة الثانية، 1996

16- د. فواز جرجس، مرجع سابق، ص: 320 ـ 321

17- لمزيد من التفاصيل حول هذه النقطة أنظر: د. محمد السيد سعيد، "مستقبل النظام العربي بعد أزمة الخليج"، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب) سلسلة (عالم المعرفة) العدد رقم (158) فبراير 1992

18- د. إبراهيم سعد الدين وآخرون، "كيف يصنع القرار في الوطن العربي"، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية) الطبعة الأولى، 1985، ص: 18 ـ 19

19- أنظر: د. عمار علي حسن، "الفريضة الواجبة: الإصلاح السياسي في محراب الأزهر والإخوان المسلمين"، (القاهرة: الدار للطباعة والنشر) الطبعة الثانية، 2008، ص: 7 – 8

20- د. سعد الدين إبراهيم، "مصر والوطن العربي"، (عمان: منتدى الفكر العربي) الطبعة الأولى 1990، ص:49 ـ 50
21- أنظر: د. عمار علي حسن، "أمة في أزمة: من أمراض العرب السياسية في الفكر والحركة"، (القاهرة: مركز الحضارة العربية) الطبعة الأولى، 2007
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات

جذور الأزمة الصومالية



إن حالة الصومال تستدعي أكثر من وقفة تأمل، وليس من سبيل إلى فهم ما يعرفه المجتمع الصومالي من تقاتل وتطاحن بين أبنائه سوى الوقوف عند جذور ما أصبح يصطلح عليه بـ"الأزمة الصومالية".وقد تكون هذه الأزمة صورة مصغرة عن أزمة مجتمعات ما بعد الاستعمار في محاولتها التوفيق بين المنظومتين الموروثتين عن مجتمع ما قبل الاستعمار، وعن الاستعمار نفسه.كما قد تعزى هذه الأزمة إلى عوامل داخلية صرفة، تعود إلى طبيعة المجتمع وتشكيلته القبلية والعرقية، واختلال مؤسساته السياسية وعجزها عن استيعاب الاختلاف والمتناقضات المميزة للمجتمع الصومالي.عناصر الأزمة
"فشلت الحكومات المتعاقبة على الصومال في معالجة المشاكل الناجمة عن مخلفات الاستعمار الثقافية والسياسية واستغلت القبلية التي تحولت إلى هوية سياسية للوصول إلى السلطة ومعيارا لتقاسمها"لا شك في أن أزمة الصومال لا يمكن ردها إلى عنصر واحد، بل إنها نتاج تداخل من العناصر، الدخيلة على المجتمع الصومالي والمتأصلة فيه، ومن بين أهم هذه العناصر نجد:
التركة الاستعماريةمن ثقافة وفكر ومؤسسات وممارسات في مجالات السياسة والإدارة والاقتصاد والاجتماع، ويمكن إجمالها فيما يلي:
تسييس القبيلة، حيث تعامل الاستعمار مع الصوماليين كمجموعات قبلية وليس كقومية واحدة، وعقد اتفاقات مع شيوخ القبائل في مناطقها، واعتبرها مجموعات سياسية مستقلة، مما أفضى إلى تسييس القبيلة الذي أفرز بدوره ما يمكن تسميته بالقبلية السياسية واعتمادها هوية سياسية بدلا من الوطنية والمواطنة الجامعة.
تقسيم الأراضي الصومالية إلى خمسة أجزاء متمايزة، الصومال الإيطالي (في الجنوب) الصومال البريطاني (في الشمال) الصومال الفرنسي (شمال غرب) وأوغادين (المحتلة من قبل إثيوبيا) ومنطقة أنفدي (شمال شرق كينيا حاليا).وقد أفرز هذا الأمر تقاليد سياسية متضاربة، بحيث أضحى لكل منطقة من هذه المناطق إرث إداري وسياسي منحدر من التجربة الاستعمارية التي خضعت لها، فضلا عن زرع بذور الانقسام والصراع بين مختلف هذه المكونات الجغرافية الصومالية.
التقسيم الاستعماري الموروث جعل أول مشروع لدولة الاستقلال السعي إلى تحرير الأراضي المحتلة مما أدخلها في حروب تحرير متوالية أنهكت ميزانيتها واستنزفت اقتصادها الضعيف أصلا بالإنفاق العسكري، وأعاقتها عن التنمية الحقيقية، وعزلتها عن محيطها الإقليمي والدولي.
سياسة الإفقار وانعدام مشاريع للتنمية التي اتبعها الاستعمار أورث الدولة المستقلة حالة اقتصادية متأزمة، وجعلها تعتمد بصورة شبه كاملة على المساعدات الخارجية بسبب عدم وجود برنامج تنموي حقيقي ومدروس علميا يؤدي إلى استغلال الموارد الطبيعية المتوفرة لتحقيق الاكتفاء الذاتي.
الصراع على السلطةأفسح هذا الصرع المجال واسعا أمام إثيوبيا لتسليح وتمويل بعض القبائل لمواجهة حكم سياد بري مما صعد الصراع ، فضلا عن تراجع هيبة الدولة وفقدان سيطرتها مما أدى في نهاية المطاف إلى سقوطها.
الحرب الباردة وتنافس القوى الكبرىكان التنافس على أشده على منطقة القرن الأفريقي، وهو ما كرس التخلف والتبعية السياسية والاقتصادية وأرهق الصومال بالصراع مع المعارضة المسلحة.
الدور الإثيوبيتعاظم هذا الدور المدعوم غربيا مقابل تراجع الدور العربي الإسلامي بسبب انكفاء الدور المصري وبقية دول الجوار العربي، مما ساهم في عزل الصومال عن محيطه العربي الإسلامي وإخضاعه لإستراتيجيات دولية وإقليمية مضرة بالبلد واستقراره الداخلي.
"تعاظم الدور الإثيوبي المدعوم غربيا مقابل تراجع الدور العربي الإسلامي مما ساهم في عزل الصومال عن محيطه العربي الإسلامي وإخضاعه لإستراتيجيات دولية وإقليمية "
إخفاق الحكومات الوطنية المتعاقبةفشلت هذه الحكومات في معالجة المشكلات الناجمة عن مخلفات الاستعمار الثقافية والسياسية بسبب قلة الكوادر من ذوي الكفاءة العلمية والإدارية، حيث استغلت القبلية للوصول إلى السلطة أو الاحتفاظ بها، مما أفرز اعتماد القبلية بدل الكفاءة كمعيار لتقاسم السلطة وكرس القبلية كهوية سياسية تميز الأفراد والجماعات.
النظام الشيوعياعتمدت حكومة الانقلاب سنة 1969 على النظام الشيوعي والذي كان ضد تقاليد ودين وحضارة الشعب الصومالي، وتغذية ثقافة التمرد على الأخلاق، مع تهميش دور المثقفين والمفكرين وعلماء الدين ومحاربة التدين، وقد أصبح الاستبداد ومبدأ الحزب الواحد مميزا لعهد سياد بري، إضافة إلى محاباته واعتماده على أبناء قبيلته ومحاربته القبائل الأخرى، مما حرض الآخرين على التنافس للوصول إلى السلطة كمصدر للنفوذ والثروة والتميز.
استفحال الفساد العاموتمثل ذلك أساسا في نهب المال العام واستغلاله بطرق غير قانونية بالإضافة إلى المحسوبية، وقد أدى كل ذلك إلى التكالب على بعض المناصب ذات العلاقة بالثروة ومشاريع التنمية الممولة من الخارج كمجال للنهب والثراء.
عجز المعارضة السياسيةإن المعارضة السياسية خارج اعتمادها على القبيلة، لم تكن تملك أي مشروع سياسي قومي واضح المعالم يمكن أن يشكل مخرجا للشعب الصومالي من الدكتاتورية القبلية لحكومة سياد بري.
نقلا عن مركز الجزيرة للدراسات

قدرات سياسات القوى الدولية في الشرق الأوسط


منير شفيق
من يحلل الإستراتيجية الأميركية في عهد الرئيس الأميركي جورج بوش الابن (2000-2006) عالميا وفي منطقة الشرق الأوسط, يجدها مختلفة عن كثير من الإستراتيجيات الأميركية المتبعة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى انتهاء ولاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون عام 2000.
منير شفيق
وقد اختلفت أساسا من حيث تحديد أولويات هذه الإستراتيجية, وما يترتب على ذلك من سياسات وتحالفات وعلاقات بالدول الأخرى.فالمحافظون الجدد الذين أصبحوا في مركز القرار الأميركي من خلال تبنيهم من قبل الرئيس جورج بوش ونائبه ديك تشيني ووزير دفاعه السابق دونالد رمسفيلد, كانوا أصحاب مشروع لإستراتيجية أميركية جديدة, لا سيما في الشرق الأوسط, لطالما عبروا عنها في تسعينيات القرن الماضي.وقد وجدوا ضالتهم لفرضه على الإستراتيجية الأميركية باستغلال أحداث 11 سبتمبر/ أيلول2001, ولهذا يخطئ من يعزو ما حدث من تغيير في تحديد أولويات الإستراتيجية الأميركية إلى تلك الأحداث.فالمحافظون الجدد والثلاثي بوش-تشيني-رمسفيلد (وهناك من يضيف كوندوليزا رايس) كانوا يعدون لإستراتيجية العسكرة العالمية من جديد قبل تلك الأحداث. وثمة دلائل على ذلك, منها العودة إلى طرح مشروع الدرع الصاروخية المضادة للصواريخ (حرب النجوم), والانسحاب من عدة اتفاقات دولية.
الإستراتيجية الأميركيةمواقف الدول الكبرىمؤشرات عام 2007
الإستراتيجية الأميركية
يمكن تلخيص الإستراتيجية الأميركية كما عبرت عن نفسها خلال الخمس أو السنوات الست الماضية عمليا، إلى جانب ما عبرت عنه إستراتيجيتا الأمن القومي الأميركي الصادرتان في 20 سبتمبر/ أيلول 2002 و16 مارس/ آذار 2004 في النقاط التالية:
"جعلت الإدارة الأميركية أولويتها إعادة صوغ دول منطقة الشرق الأوسط, وفقا لمشروع شرق أوسطي تبنى المشروع الإسرائيلي، وزاد عليه عبر المحافظين الجدد الذين يعدون أنفسهم أكثر إسرائيلية وصهيونية من الليكود"جعلت أولوياتها إعادة صوغ دول منطقة الشرق الأوسط, وفقا لمشروع شرق أوسطي تبنى المشروع الإسرائيلي، وزاد عليه عبر المحافظين الجدد الذين يعدون أنفسهم أكثر "إسرائيلية" و"صهيونية" حتى من الليكود نفسه. وهذا ما كانت تعنيه "الحرب على الإرهاب" والتعريض بالمجتمعات الإسلامية والإسلام بوصفهما حاضنين للإرهاب.
إعطاء الأولوية لمشاريع الشرق الأوسط (الكبير, الواسع, الجديد...) في الإستراتيجية الكلية الأميركية ترتب عليه في مرحلته الأولى نظرية تحالف الراغبين بديلا للالتزام بالحلف الأطلسي, كما ولد موقفا سلبيا من مجلس الأمن من أجل الانفراد بقرارات الحرب بعيدا عن مواقف الدول الكبرى الأخرى.
ولكي يعاد صوغ حكومات بلدان الشرق الأوسط ومجتمعاته العربية والإسلامية اعتمد على:
نظرية الحرب الاستباقية، سياسة التغيير بالقوة والاحتلال وهو ما طبق في أفغانستان والعراق، وفي فلسطين من قبل إسرائيل منذ عدوانها الممتد منذ ربيع 2002.
استخدام سياسة الترويع من خلال النموذج الأفغاني والعراقي وحتى الفلسطيني (محاصرة عرفات واغتياله). وهو ما عرف بنظرية تساقط أحجار الدومينو, أي الإطاحة برئيس ليرتعب الآخرون فيستسلمون.
ابتزاز الدول العربية من خلال الترويج بتبني إدارة بوش لشعارات الإصلاح والديمقراطية والشفافية وحقوق الإنسان (من المغرب إلى إندونيسيا) وذلك من أجل انتزاع التنازلات لحساب المشروع الإسرائيلي, مقابل إغلاق ملفات الاستبداد والفساد والتشهير بالأنظمة.أما التنازلات المطلوبة فكانت في أكثر من 95% منها لصالح إسرائيل: مثل الاعتراف, التطبيع, حل الجمعيات الخيرية، منع الدعم للشعب الفلسطيني, ضرب المقاومة الفلسطينية, التخلي عن التضامن العربي، إجهاض مؤسسة قمة العربية.
تحريك التناقضات الداخلية بتشجيع قوى طائفية أو إثنية أو جهوية للتحرك من أجل الضغط على الدول المركزية تحد تهديد الحرب الأهلية والانفصال. وذلك لابتزاز التنازلات المطلوبة منها أو اتخاذ الأزمة ذريعة للتدخل (أشكاله متعددة).وقد برزت هذه الظاهرة في السودان (بعد المصالحة مع تمرد الجنوب)، لا سيما في إثارة قضية دارفور وصولا إلى اتخاذ قرار من مجلس الأمن لإرسال قوات دولية.وقد فسّرت حكومة السودان ذلك بمنزلة الاحتلال وهددت بالمقاومة، فوضعت الولايات المتحدة وبريطانيا على الأجندة فرض حظر جوي فوق دارفور.
وفي حين تركت الولايات المتحدة الصومال يتمزق ويعيش الفوضى في ظل حكم أمراء الحرب وحكومة صورية، عادت للتدخل ومن خلال مجلس الأمن عندما تمكنت حركة المحاكم الإسلامية من القضاء على حكم أولئك الأمراء، وحملت وعودا مع التفاف الشعب حولها في توحيد الصومال وتحقيق الأمن فيه.
وهكذا فُتحت جبهتان جديدتان في السنتين الماضيتين ضد السودان والصومال ضمن الهجمة الأميركية التي استهدفت إقامة مشروع الشرق الأوسط الآنف الذكر.
باختصار شنت الولايات المتحدة الأميركية حربا واسعة متعددة الأوجه, من الخارج ومن الداخل, ضد عدد من البلدان العربية والإسلامية من أفغانستان إلى السودان.
تغييرات أساسيةهذه الإستراتيجية استمرت في العهد الثاني لإدارة بوش لكن مع إحداث ثلاثة تغييرات أساسية, وذلك بسبب ما لقيته تلك الإستراتيجية من فشل وإخفاق لا سيما في العراق، التغيير الأول كان بالعودة إلى مصالحة فرنسا وألمانيا وإعادة الاعتبار لحلف الأطلسي, والثاني إعادة الاعتبار لمجلس الأمن, حيث راحت الولايات المتحدة تعقد الصفقات مع روسيا والصين وأوروبا مقابل تصويتها في مصلحة قرار يهم الإدارة الأميركية, مع تقديم تنازلات عند صوغه.
والتغيير الثالث التراجع عن الضغوط على عدد من الدول العربية بطي ملفات الإصلاح والديمقراطية أو فضائح الفساد والاستبداد وأشكال انتقال السلطة, ومن ثم العودة إلى شعار "تغليب الاستقرار".لقد أفادت كل من روسيا والصين والهند وعدد من الدول بسبب غرق السياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط, ومن ثم غضها الطرف عما يجري هناك، فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين رتب الوضع الداخلي مبعدا الأفراد والقوى المتنفذة الموالية لأميركا والصهيونية.وها هي ذي روسيا تعود دولة قوية من جديد، أما الصين والهند فقد توسعتا في تطوير اقتصادهما ودخلتا السوق العالمي بقوة ولم تقصرا في استغلال القدرة العسكرية والتكنولوجية العالية. وقد حدث الشيء نفسه عام 2005 في أوروبا عندما تراجعت إدارة بوش عن نظرية أوروبا "القديمة والجديدة" وعادت إلى الحلف الأطلسي.
مواقف الدول الكبرى
بين العامين 2002 و2004 توترت العلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية وكل من روسيا والصين وفرنسا وألمانيا، ولهذا علت أصوات معارضة للسياسات الأميركية لا سيما في الموضوع الفلسطيني والحرب في العراق، لكن هذه المعارضة كانت خافتة وهي ترى الجيش الأميركي يتخبط بالفشل في العراق.وقد راحت تستغل هذا الانشغال الأميركي الذي جعل أولويته الشرق الأوسط، ومن ثم أفسح المجال لتك الدول لترتب أوضاعها على أكثر من مستوى، علما بأن المنافس الحقيقي للهيمنة الأميركية العالمية ليس بلدان الشرق الأوسط وإنما روسيا والصين وأوروبا والهند.
"حدث خلل خطير في الإستراتيجية الأميركية في عهدي إدارة بوش حين وضعت أولوياتها تغيير الشرق الأوسط لمصلحة المشروع الإسرائيلي وتركت المنافسين الكبار يعززون أوضاعهم الداخلية سياسيا واقتصاديا وينتشرون في مواقع كثيرة في العالم"
خلل إستراتيجيمن هنا يلحظ الخلل الخطير في الإستراتيجية الأميركية في عهدي إدارة بوش حين وضعت أولوياتها "تغيير الشرق الأوسط لمصلحة المشروع الإسرائيلي" وتركت المنافسين الكبار يعززون أوضاعهم الداخلية سياسيا واقتصاديا وينتشرون في مواقع كثيرة في العالم. وهذا ما يفترض توقع تغيير في أولويات الإستراتيجية الأميركية بعد الانتخابات الرئاسية القادمة عام 2008.
ورغم تعقيد العلاقات الدولية بين الدول الكبرى إزاء ما يسمى (زورا) الشرق الأوسط الكبير. وذلك إذ تجتمع المساومة والصفقات والتنازع لمصلحة قرارات في مجلس الأمن, أو في قمم مجموعة الدول الثماني, تريدها الإدارة الأميركية لخدمة سياساتها الشرق أوسطية إلا أن تلك الدول استمرت في التهيئة لأدوار مستقبلية في المنطقة.
ومن هنا تلمس مجموعة مظاهر في السياسات الدولية (روسيا والصين وأوروبا) لم تسلم بالاستفراد الذي تريده أميركا أو باعتبار "المنطقة أميركية", فعلى سبيل المثال تسعى فرنسا لدور الشريك في الحفاظ على أمن الخليج, أو في تقرير مصير لبنان, وتسعى للعب دور في الموضوع الفلسطيني.
كذلك فإن كلا من ألمانيا وإيطاليا تسعيان لأخذ دور رئيس نشط في قوات "اليونيفيل" في لبنان على ضوء قرار مجلس الأمن رقم 1701, إلى جانب الدور الفرنسي.
ومواقف روسيا والصين من موضوع البرنامج النووي الإيراني, بل وفي كل قرار يصدر عن مجلس الأمن يتعلق بلبنان أو سوريا أو العراق أو السودان, يدل على أن الساحة الشرق أوسطية غير متروكة للاعب الأميركي وحده. وبالطبع يساعد على ذلك مسلسل الإخفاق في السياسات الأميركية من أفغانستان حتى السودان مرورا بلبنان وفلسطين.
على أن هذه المعادلة بمجملها أشاعت أوضاعا تتسم بالفوضى والاضطراب على المستويين العالمي والشرق أوسطي, ما أفسح المجال من خلال ما شنته الإدارة الأميركية من حروب, ومن ضغوط لخلخلة الأنظمة, إلى بروز قوى شعبية كثيرة لم تكن موجودة على الساحة, كما نشهد في العراق مثلا, وإلى نهوض في المقاومة فلسطينيا (مع نجاح حماس في الانتخابات وفشل العدوان العسكري على قطاع غزة), وفي المقاومة اللبنانية بسبب ما حققه حزب الله من انتصار على القوات الإسرائيلية في عدوانها الأخير على لبنان في يوليو/ تموز 2006.
ثم إن هنالك إرهاصات كثيرة لحراك شعبي جديد كما يظهر حيثما جرت انتخابات نيابية. فبدلا من أن تعيد إدارة المحافظين الجدد صوغ الشرق الأوسط وفقا لمنظور إسرائيلي, دخل هذا الشرق في الفوضى الحبلى باحتمالات دولية وشعبية وانقسامات داخلية متعددة من جهة, وما زال تحت خطر العدوان الخارجي, لاسيما ضد إيران, من جهة أخرى.
ويجب أن تضاف التغييرات المحتملة في حالة اندلاع صراعات على مستوى الدول الكبرى إذا ما تغيرت أولويات الإستراتيجية الأميركية بعد انتهاء عهد إدارة بوش. وهو ما سيعكس نفسه على المنطقة العربية والإسلامية خاصة في حالة تشكل محاور سياسية عسكرية عالمية.
ومن هنا يلحظ أن مخططات إدارة بوش فشلت إلا في صنع فوضى شاملة، فقد أثبتت التجربة أن في قدرة أميركا التخريب وإشاعة الفوضى, لكن ليس في قدرتها إقامة نظام شرق أوسطي ضمن المواصفات الإسرائيلية.
وأثبتت التجربة أن الدول الكبرى ورغم ما تعلنه من بيانات مشتركة أو تصدره من قرارات في مجلس الأمن, ليست في موقع فرض إرادتها لأنها متنازعة في داخلها ومتربصة بعضها ببعض, ولم تستطع الاتفاق على اقتسام قطعة الجبن.
فهي متنازعة في الجوهر, وقد تتفق في هذه الجزئية أو تلك اتفاقا مؤقتا ليس أكثر, ومن ثم هي عاجزة عن العمل المشترك والاتفاق الإستراتيجي.
مؤشرات عام 2007
"يعد العام 2007 عاما حاسما في تقرير نتائج الصراعات التي عرفتها المنطقة من العام 2003 حتى العام 2006، والتي تُركت بلا حسم بعد فشل احتلال العراق والعدوان الإسرائيلي أمام المقاومة في لبنان، كما فشل العدوان على قطاع غزة، فضلا عن الصومال والسودان"هذه المعادلة المعقدة للوضع الدولي هي التي ستضع بصماتها على الأهداف المقبلة للقوى الدولية في المنطقة عام 2007، وذلك رغم ما حدث من تغير داخلي أميركي نتيجة الانتخابات النصفية الأخيرة، حيث تمثل هذا التغيير في انتقال الأغلبية في مجلسي الكونغرس إلى الديمقراطيين، ولهذا سيكون أمام إدارة الرئيس بوش أزمتان أساسيتان للمعالجة وهما: الملف النووي الإيراني، والملف العراقي، مما سيبقيه ضمن إعطاء الأولوية في الإستراتيجية الأميركية لمنطقتنا.وهو ما سيترك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين طليق اليد في ترتيب أوضاع روسيا، خاصة لما بعد انتهاء رئاسته عام 2008، إلى جانب محاولة تكريس وضع روسيا بوصفها دولة كبرى لها كلمتها التي يجب أن تسمع في كل القضايا.وسينطبق هذا على وضع الصين والهند ودول أمريكا اللاتينية، كما على وضع أوروبا التي ستزيد شهيتها للعب دور أكبر في منطقتنا لا سيما في عهد رئاسة "ميركل" للاتحاد الأوروبي مع بداية العام 2007. فضعف إدارة بوش يزيد حاجته إلى أوروبا التي ستفيد منه.
ثم هناك الانتخابات الفرنسية حيث إن أثرها على السياسة الخارجية الفرنسية سيكون شاسعا بين نجاح "ساركوزي" أو نجاح "سيغوين رويال" إذا ما انحصر التنافس بينهما. فالأول أطلسي الهوى (أميركي الهوى) كما يعلن، والثانية ستظل في حدود فرنسا ميتران-شيراك.أما انتهاء رئاسة "توني بلير" للحكومة البريطانية التي كان طابعها التبعية الكاملة لإدارة بوش، حتى لو كان لديها رأي مخالف أو محافظ، ولكن هذا التغيير سيكون كميا ونسبيا من دون أن يهز التحالف الإستراتيجي مع الولايات المتحدة، ومن المتوقع أن تلعب بريطانيا دورا أكثر.
أما سياسة الدول الكبرى الأخرى روسيا والصين وأوربا فستعمل على زيادة دورها في سياسات المنطقة لكن ليس بعيدا من الولايات المتحدة، وليس ضمن السياسات الأميركية في الآن نفسه. فحيثما تبادر الولايات المتحدة في الهجوم (مثال العراق 2003، ولبنان 2006) ترجع الدول الكبرى خطوة إلى الوراء، وحيثما تفشل، وهذا هو المتوقع دائما، تبادر أوروبا لتجني الثمار عند الحلول الوسط (مثال لبنان وأفغانستان).أما الروس فيدخلون عبر معارضة ما تطالبه الإدارة الأميركية من قرارات في مجلس الأمن، ثم اضطرارها لمساومتهم حيث يمكن لروسيا أن تأخذ بتعزيز دورها في المنطقة، (مثال سوريا وإيران وحماس).أي أنه لم تتشكل حتى الآن متغيرات نوعية، ما عدا مأزق إدارة بوش في العراق لاسيما في السياسات الدولية تختلف عن السنتين الماضيتين لا من ناحية الإستراتيجية العالمية لأي منها، ولا من ناحية إستراتيجيتها في منطقتنا.وهو ما تعبر عنه حتى الآن السياسة الأميركية التي لا بد من أن تؤثر في ردود الفعل عليها، فما من دولة كبرى تسعى لصدام مكشوف مع الولايات المتحدة، أو استفزازها ما دامت قد كفت شرها عنها مركزة شرها على بلداننا العربية والإسلامية.
بالإضافة إلى استمرار حالة التفجر في العراق ولبنان وفلسطين وأفغانستان والتحضير للحرب ضد إيران سوف تتصاعد خلال العام 2007 الأزمة المتفجرة في السودان لا سيما في حالة تنفيذ قرار الحظر الجوي الأميركي-البريطاني فوق دارفور وزيادة احتمال تفجر علاقة جنوب السودان بشماله، كما في الصومال المتفجر.والوضع الجديد، كما يؤشر قرار مجلس الأمن (التدخل الأميركي-البريطاني-الفرنسي)، والتدخل العسكري الإثيوبي، وذلك مقابل قوة المحاكم الإسلامية المتصاعدة والمصممة على مواجهة التدخلات الخارجية الدولية والإقليمية.
لا مؤشرات لحدوث متغير نوعي في السياسات السعودية والمصرية في مواجهة أزمات المنطقة في فلسطين ولبنان والعرق والسودان والصومال، ما يضعف التأثير العربي في مواجهة الهجمة الأميركية والإسرائيلية في العام 2007 لا سيما مع ارتفاع التصعيد الداخلي إلى مستويات أعلى في كل من لبنان والعراق وفلسطين. ومع ارتفاع التصعيد الأميركي – الإسرائيلي ضد إيران، وإلى حد أقل ضد سوريا.
عام حاسمفالعام 2007 سيكون عاما حاسما في تقرير نتائج الصراعات التي عرفتها المنطقة في الفترة من العام 2003 وحتى العام 2006، والتي تركت بلا حسم بعد فشل الاحتلال الأميركي في العراق، والعدوان العسكري الإسرائيلي حتى ميدانيا أمام المقاومة في لبنان، كما فشل العدوان على قطاع غزة، فضلا عن الفشل في الصومال والسودان، وفتح ملفهما على مصراعيه.
يجب أن يلاحظ هنا النمو الكبير الذي شهدته قوى المقاومة والممانعة ضد المشروع الشرق أوسطي، وما أشير إليه من فشل أميركي-إسرائيلي أعلاه، ولكن دون الوصول إلى مستوى الحسم داخليا، وفي ظروف تفاقم الانقسامات الداخلية (ولأسباب متعددة) إلى حد التهديد باندلاع حلاب أهلية.ولهذا فإن العام 2007 سيكون عام اضطرابات وأزمات وفوضى عبر خضم من التدخلات الخارجية والصراعات الداخلية، وربما تشكل محاور إقليمية ما زالت في مراحلها الجنينية.ويمكن القطع في كل الحالات بأن آفاق تحقيق المشروع الشرق أوسطي، والنجاح الأميركي في كل الجبهات المفتوحة آفاق مسدودة كما كان الحال في العام 2006.ولكن في المقابل سيظل انتصار القوى المقابلة بسبب تعقيدات الوضع العربي وانقسامه وبسبب تعقيدات الأوضاع الداخلية وانقساماته محدودا ضمن أمواج متلاطمة وعواصف من كل اتجاه.
نقلا عن مركز الجزيرة للدراسات

الحياة السياسية في اليمن.. قراءة أولية

محمد عبد العاطي
واقع الحياة السياسية في اليمن تشخصه معطيات أساسية من بينها صعوبة التداول السلمي على السلطة وافتقاد التوازن بين سلطات الدولة الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية فضلا عن هشاشة مؤسسات المجتمع المدني وقلة تأثيرها في الدفع بعمليات الإصلاح السياسي خطوات للأمام.
الحياة الحزبية
الحياة الحزبية الانتخابات التداول العلاقة بين السلطات الحريات المجتمع المدني
في اليمن 22 حزبا، أهمها ثلاثة هي:
المؤتمر الشعبي العام (الحزب الحاكم).
التجمع اليمني للإصلاح.
الحزب الاشتراكي اليمني.
والبقية أحزاب ضعيفة التأثير.
وقد بدأت التعددية الحزبية في اليمن مع إعادة تحقيق الوحدة بين شطري اليمن والإعلان عن قيام الجمهورية اليمنية (الموحدة) في 22 مايو/أيار 1990.
الإطار القانوني والتشريعينظم التعدد الحزبي في اليمن قانون الأحزاب رقم 66 الصادر في أكتوبر/تشرين الأول 1991 وفي القلب منه المادة 13 القاضية بتشكيل لجنة تسمى "لجنة شؤون الأحزاب والتنظيمات السياسية التي من مهامها:
فحص الطلبات المقدمة لتأسيس الأحزاب والتنظيمات السياسية.
التحقق من توافر الشروط القانونية الواجبة لإنشاء كل حزب.
وقد صدر القانون السابق في إطار سعي دولة الوحدة لإحداث توازن بين القوى السياسية ولم شمل الفرقاء السياسيين وإيجاد بيئة صحية مهيأة لنمو الوحدة وقطف ثمارها، فجاء القانون السابق ملبيا لطموح الكثير من القوى السياسية.

وهناك حديث عن اعتزام الحكومة التقدم لمجلس النواب بطلب تعديل بعض بنود القانون السابق وبخاصة ما يتعلق منه بـ:
سحب ترخيص أي حزب أو تنظيم سياسي لم يحصل على ما نسبته 1% من أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية والمحلية.
إلغاء ترخيص أي حزب لم يشارك في الانتخابات النيابية والمحلية لدورتين.
وتلقى هذه الأطروحات معارضة كبيرة من الأحزاب السياسية اليمنية التي تصر على أن أي تعديل يلحق بقانون الأحزاب ينبغي أن يتم بالتحاور مع الأحزاب القائمة وأن لا ينفرد به الحزب الحاكم أو حكومته.
طبيعة العلاقة بين الأحزاب
والعلاقة بين الأحزاب في اليمن مؤسسة على المصالح أكثر من التقارب الفكري، وهو ما يجعلها سلاح ذو حدين، فأحيانا يكون في صالح عملية الإصلاح السياسي وذلك إذا ما تم التنسيق بينها بفاعلية كما حدث في أكثر من مناسبة.
وأحيانا أخرى يكون معطلا للإصلاح وذلك بكثرة تغيير الولاءات والتحالفات مما يؤثر بالسلب على عامل الثقة المطلوب بين قيادات تلك الأحزاب وينعكس على كفاءتها في تحقيق أهدافها السياسية.
"أهم معوق لتطور الحياة الحزبية في اليمن يتمثل في رأي المعارضة ودعاة الإصلاح السياسي في جمع رئيس الجمهورية بين منصبي الرئاسة وزعامة الحزب الحاكم واستغلال موارد الدولة وقدراتها لصالح مرشحي حزب الرئيس
"
ففي عام 2002 قام تحالف بين بعض الأحزاب المهمة أطلق عليه "أحزاب اللقاء المشترك" بهدف التنسيق فيما بينها "لتقليل هيمنة حزب المؤتمر الشعبي على السلطة والاستعداد للانتخابات البرلمانية التي ستجرى في العام التالي (2003)".
وكان من أبرز المشاركين في هذا اللقاء التجمع اليمني للإصلاح ذي التوجه الإسلامي والحزب الاشتراكي. وقد نحّى الحزبان خلافاتهما التاريخية الفكرية والسياسية جانبا التي كانت وصلت إلى حد الاقتتال في الحرب التي اندلعت عام 1994 وساند فيها حزب الإصلاح الرئيس علي عبد الله صالح.
وظهر أثر وفعالية ذلك التحالف في دعم مرشح أحزاب اللقاء المشترك( تكتل المعارضة الرئيسة ويضم تجمع الإصلاح، الحزب الاشتراكي، حزب الحق، التنظيم الوحدوي الناصري، واتحاد القوى الشعبية) فيصل بن شملان الذي نافس الرئيس علي عبد الله صالح في انتخابات الرئاسة التي جرت عام 2006، وحصل بفضل ذلك الدعم على 21% من الأصوات، حسب بيانات اللجنة العليا للانتخابات، التي شككت المعارضة في نزاهتها.

لكن وبشكل عام فإن الكفاءة والقوة التي تؤهل تكتل أحزاب المعارضة (اللقاء المشترك) لتحقيق هدفه المتمثل في تقليل هيمنة الحزب الحاكم على الحياة السياسية تعترضه عراقيل كثيرة أهمها:
ضعف إمكانات وقدرات تلك الأحزاب مقارنة بإمكانات وموارد حزب المؤتمر الشعبي الحاكم.
دعم أجهزة الدولة مرشحي حزب المؤتمر كما توثق ذلك العديد من منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية.
ومن غير المتوقع أن لا تتغير هذه المعادلة طالما بقي رئيس الجمهورية رئيسا للحزب الحاكم.
الانتخابات
الحياة الحزبية الانتخابات التداول العلاقة بين السلطات الحريات المجتمع المدني
العملية الانتخابية في اليمن لها خصوصية نابعة من طبيعة المجتمع اليمني نفسه وتركيبة نظامه السياسي.
القانون المنظمينظم الانتخابات في اليمن قانون يسمى قانون الانتخابات والاستفتاء رقم 13 لسنة 2001 ويلحق به التعديلات التي أدخلت على مواده عامي 2005 و 2006 خاصة ما يتعلق منها بتشكيل اللجنة العليا للانتخابات والصادر بشأنها قانون من مجلس النواب يحمل رقم (26) لسنة 2006 الذي تعدلت بموجبه الفقرة (أ) المتعلقة بطريقة تشكيل هذه اللجنة.
ويتيح هذا القانون لكل يمني بلغ 18 عاما الإدلاء بصوته، كما يمكن الناخب المقيد اسمه في جداول الانتخابات من الإدلاء بصوته في لجنة الاقتراع التي تقع ضمن محل إقامته، وغير ذلك من بنود أخرى كثيرة.
وفيما يتعلق بتشكيل اللجنة العليا المشرفة على الانتخابات فإنها -وفقا للتعديل سابق الذكر- تصدر بقرار من رئيس الجمهورية الذي خوله القانون تشكيلها وذلك باختياره 7 أعضاء من قائمة تضم 15 اسما يرشحهم مجلس النواب.

ولما كان حزب المؤتمر الشعبي العام (الحزب الحاكم) يسيطر على 75% من مقاعد البرلمان البالغ عددها 301 مقعدا فإن القائمة التي يرشحها رئيس الجمهورية كثيرا ما تقابل بلغط كبير في الشارع السياسي اليمني لا سيما داخل أوساط المعارضة.
والسبب الجوهري في هذه المعارضة يكمن في أنه لا يجوز -كما يرى المعارضون- أن يختار رئيس حزب منافس أعضاء اللجنة العليا المشرفة على الانتخابات حتى ولو كان رئيس هذا الحزب هو رئيس الجمهورية نفسه.
ولذلك فإن الأحزاب السياسية في الحكم والمعارضة تصر منذ تشكل أول لجنة للانتخابات عام 1993م أن ضمان استقلاليتها يكون بمشاركة جميع الأحزاب الفاعلة في هذه اللجنة، وعلى هذا الأساس جرت ثلاث دورات انتخابية برلمانية ودورتين انتخابية لكل من الرئاسية والمحلية.
إلا أن حزب المؤتمر الشعبي الحاكم وفي إطار محاولته الاستئثار بتشكيل لجنة الانتخابات تقدم في نوفمبر 2007 بمشروع تعديلات لقانون الانتخابات وتم عرضه على البرلمان وسط رفض أحزاب المعارضة، وبموجب هذه التعديلات سيتم تشكيل لجنة الانتخابات من سبعة قضاة يختارهم رئيس الجمهورية، خلافا لتشكلها من شخصيات حزبية من الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة.

بيئة الانتخاباتوفي العموم لا يوجد إلى حد كبير في اليمن تزوير للانتخابات بالمعنى التقليدي والمتعارف عليه لكلمة تزوير، أي أنه لا يحدث أن يأتي أشخاص تابعون للحزب الحاكم -على سبيل المثال- ويؤشرون على كلمة نعم أمام اسم المرشح التابع لهم، أو أن يتم استبدال صناديق الاقتراع بصناديق معدة سلفا ومملوءة ببطاقات تصويت لصالح الحزب، أو ما شابه ذلك من طرق التزوير المعروفة في بعض البلدان العربية الأخرى.
لكن لا يعني هذا أن أمور الانتخابات في اليمن تتم وفقا للمعايير الديمقراطية الدولية المعروفة أو أنها ملتزمة بكامل النزاهة والحيادية.

فالانتخابات اليمنية تجرى في بيئة يغلب عليها الطابع القبلي وتتدخل الدولة بمؤسساتها الأمنية والإدارية والإعلامية -على حد قول دعاة الإصلاح وتقارير منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية- في تلك الانتخابات لجعل الكفة تميل لصالح مرشحي حزب المؤتمر الشعبي الحاكم.
وكان بعض نتائج ذلك تصاعد معدلات فوز المؤتمر بمقاعد مجلس النواب في الانتخابات التشريعية الثلاث التي شهدتها البلاد منذ 1993 حتى 2003 على النحو التالي:
نتائج حزب المؤتمر في الانتخابات
الانتخابات
عدد المقاعد
النسبة المئوية
1993
124
41%
1997
223
74%
2003
226
75%
التداول
الحياة الحزبية الانتخابات التداول العلاقة بين السلطات الحريات المجتمع المدني
التداول على السلطة في اليمن مكفول قانونا ودستورا ولا توجد عوائق أمام أي يمني تنطبق عليه الشروط للوصول إلى منصب الرئاسة، لكن الأمر لا تحدده فقط النصوص والتشريعات القانونية، فللمسألة أبعاد أخرى.
التداول من منظور قانوني
"يعرقل تداول السلطة في اليمن الخلل في الإمكانات بين تلك المرصودة لإنجاح مرشح الحزب الحاكم لرئاسة الدولة وهي إمكانات دولة وبين إمكانات أي مرشح مستقل أو مدعوم من قبل المعارضة
"من الناحية القانونية لا يوجد مانع أمام أي يمني من أن يكون رئيسا للجمهورية إذا انطبقت عليه شروط المادة 107 من الدستور الخاصة بشروط الترشح لرئاسة الجمهورية. لكن الأمور على أرض الواقع تأخذ مسارا مختلفا عن هذا التنظيم الدستوري.
فالرئيس الحالي علي عبد الله صالح في منصبه منذ 30 عاما (منذ 1990 رئيسا لليمن الموحد ومنذ 1978 رئيسا للجمهورية العربية اليمنية التي كانت تعرف باليمن الشمالي) ومن المقرر وفقا للمادتين 112 و 161 أن تنتهي فترة رئاسته عام 2013، فإذا انتهت تلك الفترة بسلام يكون عدد السنوات التي قضاها في سدة الحكم 35 سنة.

صعوبة تحقيق التداولفي يوليو/ تموز 2005 أعلن الرئيس علي عبد الله صالح أنه لن يرشح نفسه للانتخابات الرئاسية القادمة لكي "يؤسس لتداول سلمي على السلطة"، لكنه عاد في يونيو/حزيران 2006 وغير رأيه مبررا ذلك باستجابته لإرادة الجماهير.
والعلة في صعوبة تحقيق تداول سلمي على السلطة في اليمن لا تكمن في النصوص الدستورية والقانونية وإنما في بنية النظام السياسي اليمني التي تتيح لرئيس الجمهورية أن يكون في الوقت نفسه رئيسا لأحد الأحزاب العاملة في الساحة السياسية.
وهنا يحدث الخلل إذ أن المنافسة لن تكون بين أحزاب متكافئة أو مرشحين مستقلين يقفون على قدم المساواة وإنما بين مرشح حزب على منصب الرئيس تسانده دولة بكل إمكاناتها، وبين مرشح آخر إما أن يتقدم للترشيح مستقلا أو أن حزبا أو تكتلا حزبيا يقف خلفه بإمكاناته المتواضعة إذا ما قيست بإمكانات وقدرات الدولة.

العلاقة بين السلطات
الحياة الحزبية الانتخابات التداول العلاقة بين السلطات الحريات المجتمع المدني
سلطات الدولة اليمنية الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية متوازنة ومحددة الاختصاصات في بنود الدستور، لكن رؤية الصورة بعيدا عن النصوص وكما هي على أرض الواقع مختلفة.
حدد الدستور اليمني مهام واختصاصات سلطات الدولة الثلاثة التنفيذية والتشريعية والقضائية، والذي يقرأ بنود هذا الدستور (149، 150، 151، 152، 153، 154) يلحظ توازنا بين هذه السلطات ومكانة مميزة للسلطة القضائية.
العلاقة بين السلطة التنفيذية والقضائيةحيث ينص الدستور على أن يكون للقضاء مجلسا أعلى ينظم القانون اختصاصاته وطريقة ترشيح وتعيين أعضائه، ويعمل على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة من حيث التعيين والترقية والفصل والعزل وفقا للقانون، ويتولى المجلس دراسة وإقرار مشروع موازنة القضاء، تمهيدا لإدراجها رقما واحدا في الموازنة العامة للدولة.

"
التحايل على مواد الدستور التي هي من الناحية النظرية كافلة للتوازن بين السلطات يتم عن طريق التحكم فيمن يدخل البرلمان وذلك بوقوف الدولة والحزب الحاكم خلفه حتى تضمن تسيير القوانين التي تريدها السلطة التنفيذية دون عراقيل برلمانية"
وينص الدستور كذلك على أن المحكمة العليا للجمهورية هي أعلى هيئة قضائية، وأن القانون هو الذي يحدد كيفية تشكيلها ويبين اختصاصاتها والإجراءات التي تتبع أمامها.
ولا ينص الدستور -شأن دساتير بعض الدول العربية- على أن رئيس الجمهورية هو رئيس مجلس القضاء الأعلى أو أن له سلطة تلغي سلطات المحكمة العليا أو تحد من سلطات البرلمان.
العلاقة بين السلطة التنفيذية والتشريعيةأما عن العلاقة بين السلطة التنفيذية والتشريعية فقد حدد الدستور اختصاصات رئيس الجمهورية ومنها:
تكليف من يشكل الحكومة وإصدار القرار الجمهوري بتسمية أعضائها.
تعيين وعزل كبار موظفي الدولة من المدنيين والعسكريين وفقـا للقانون.
إعلان حالة الطوارئ والتعبئة العامة وفق للقانون.
الدعوة إلى انتخابات برلمانية وإلى إجراء استفتاء عام.
تشكيل مجلس الدفاع الوطني.
إصدار القوانين التي وافق عليها مجلس النواب ونشرها وإصدار القرارات المنفذة لها.
وألغت التعديلات الدستورية عام 2001 حق رئيس الجمهورية في أن يمارس الحكم بالمراسيم عندما يكون البرلمان في إجازة.
وقيد الدستور صلاحيات رئيس الجمهورية في رفض القوانين الصادرة عن البرلمان فنص في المادة 102 على أنه: لرئيس الجمهورية حق طلب إعادة النظر في أي مشروع قانون أقره مجلس النواب ، ويجب عليه حينئذ أن يعيده إلى مجلس النواب خلال ثلاثين يوماً من تاريخ رفعه إليه بقرار مسبب، فإذا لم يرده إلى المجلس خلال هذه المدة أو ردّ إليه وأقره ثانية بأغلبية مجموع أعضائه اعتبر قانونا وعلى رئيس الجمهورية إصداره خلال أسبوعين، فإذا لم يصدره اعتبر صادرا بقوة الدستور دون حاجة إلى إصدار، وينشر في الجريدة الرسمية فورا ويعمل به بعد أسبوعين من تاريخ النشر.

وكفل الدستور كذلك للبرلمان حق اتهام وإحالة رئيس الجمهورية للمحاكمة وذلك (الاتهام) بناء على طلب من نصف أعضاء مجلس النواب، أما قرار إحالته إلى المحاكمة أمام المحكمة العليا فيتطلب أغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب.
والسبب في هذا التوزان بين السلطة التنفيذية والتشريعية مرجعه إلى حالة التوازن السياسي بين الحزبين الحاكمين لشطري اليمن قبل الوحدة وبعدها(الحزب الاشتراكي بالجنوب، وحزب المؤتمر الشعبي في الشمال) إبان إقرار هذا الدستور، ولمشاركة تيارات كثيرة في المجتمع اليمني وبالأخص التيار الإسلامي في صياغة بنوده وإقراره.
الواقع المعاشلكن ليس معنى هذا أن اليمن يعيش حالة فريدة من الديمقراطية ويتمتع بفصل كامل بين السلطات كما توحي للوهلة الأولى قراءة النصوص الدستورية.

"صلاحيات السلطة التشريعية يتم التحايل عليها باستغلال إمكانات الدولة في الانتخابات والوقوف بجانب مرشحي فصيل سياسي معين على حساب الفصائل الأخرى وتكون النتيجة إفراغ وظيفة البرلمان كرقيب شعبي على أداء السلطة التنفيذية من مضمونها
"
فالصلاحيات الدستورية الممنوحة للسلطة التشريعية يتم التحايل عليها -كما ترصد منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية وكما يقول دعاة الإصلاح السياسي- عن طريق السيطرة على مجلس النواب (السلطة التشريعية) من باب الانتخابات.
فالدولة -والكلام دوما للمنظمات الحقوقية وللمعارضة- تقف بجانب مرشح المؤتمر الشعبي على حساب مرشحي الأحزاب الأخرى فيكون لأعضاء المؤتمر الغلبة على مجلس النواب (آخر انتخابات فازوا بـ 75% من عدد المقاعد) ويتمكنون بذلك من إفراغ البرلمان من وظيفته كرقيب على أداء السلطة التنفيذية.
والحال نفسه ينطبق على علاقة السلطة التنفيذية بالقضائية، فالأمور ليست وردية كما يصورها الدستور وينظمها القانون.
فالكثير من القضاة اليمنيين يطالبون بإلغاء وزارة العدل التي هي جزء من السلطة التنفيذية لأنها على حد قولهم تتدخل ماليا وإداريا في بعض أعمال القضاء بما يجرح العدالة والنزاهة المطلوبين في عملية التقاضي.
كما يطالبون بزيادة الميزانية المرصودة للقضاء والتي لا تزيد عن 1% من ميزانية الدولة لكي يتمكن جهاز القضاء من أداء دوره بالكفاءة المطلوبة.

الحريات
الحياة الحزبية الانتخابات التداول العلاقة بين السلطات الحريات المجتمع المدني
من الناحية النظرية يتوافر في اليمن مجموعة من التشريعات والقوانين التي توفر بيئة مناسبة للحريات العامة، فبحكم الدستور (مواد 48، 49، 51، 53) لا يجوز اعتقال شخص أو حبسه إلا بقانون، كما أن عمليات التعذيب في أقسام الشرطة والمعتقلات مجرمة، وحقوق الأفراد في حرمة منازلهم وممتلكاتهم واتصالاتهم مصانة، وحقهم في التظاهر والاعتصام والرأي والتعبير مكفولة.
لكن على أرض الواقع يتم خرق بعض هذه المواد وانتهاك تلك الحقوق بطرق وأساليب متعددة.
فالدستور -مثلا- كفل حرية الرأي والتعبير ونص على أن ينظم ذلك قانون، وهنا فتح الباب أمام البرلمان (ثلاثة أرباع مقاعده يسيطر عليها حزب المؤتمر الشعبي الحاكم الذي يشكل الحكومة) ليتدخل في تنظيم تلك الحرية أو هذا الحق.

وإلى الآن تحتكر الدولة اليمنية محطات الإذاعة والتلفزيون. أما الصحافة فإن القانون الصادر عام 1990 ينظم أمورها، غير أن كثيرا من الإعلاميين يطالبون بإدخال تعديلات عليه تأخذ في عين الاعتبار:
أن يكون القضاء وحده وليس أي جهة أمنية أو سياسية أو إدارية أخرى المرجعية الوحيدة في البت بقضايا النشر.
منع حبس الصحفيين احتياطيا أو سجنهم أو إغلاق الصحيفة التي يعملون فيها كعقوبة على ما ينشرونه من آراء.
أما حرية التظاهر والاعتصام وهما من الحريات العامة المكفولة في معظم دساتير العالم ومنها الدستور اليمني فإن الأمر أيضا تم الالتفات عليه، عندما تمكنت حكومة حزب المؤتمر الشعبي الحاكم من تمرير قانون " تنظيم المظاهرات والمسيرات " رقم 29 للعام 2003 بعد موافقة البرلمان عليه، وهو قانون يمنع إقامة أي فعاليات سياسية من تظاهرات واعتصامات دون الحصول على ترخص مسبق من وزارة الداخلية.

المجتمع المدني
الحياة الحزبية الانتخابات التداول العلاقة بين السلطات الحريات المجتمع المدني
الملاحظة الأساسية في منظمات المجتمع اليمني التي كثر عددها خلال السنوات القليلة الماضية أن هذه الكثرة ملموسة في مجال الخدمات الاجتماعية وقليلة في مجال حقوق الإنسان والتنمية الثقافية.
القوانين المنظمةتنظم عدة قوانين منظمات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية في اليمن هذه القوانين هي:
القانون رقم 1 لعام 2001 الخاص بالجمعيات والمؤسسات.
القانون رقم 66 لعام 1991.
قانون تنظيم المؤسسات الاجتماعية والثقافية والاتحادات والمنتديات والنقابات المهنية والجمعيات الخيرية لعام 1997.
وقد ازدادت في السنوات الأخيرة أعداد المنظمات والجمعيات الأهلية حتى تجاوز عددها الأربعة آلاف.
وسهلت القوانين سالفة الذكر خاصة قانون 66 لعام 1991 إنشاء هذه المنظمات، إذ يكتفي بتقديم طلب تأسيس لوزارة الشؤون الاجتماعية على أن ترد عليه في غضون شهر وإلا اعتبر التأسيس نافذا.
ويلاحظ كثرة هذه المنظمات وتلك الجمعيات -كما سبق القول- في مجالات الرعاية الاجتماعية وقلتها في المجالات المعنية بحقوق الإنسان والتنمية الثقافية.

مشكلات الجمعيات الأهليةوتعاني أغلب المؤسسات الأهلية في اليمن كما يقول الكثير من الباحثين المعنيين بتنظيمات المجتمع المدني من:
ضعف إدارتها وقلة خبرات القائمين عليها وميل الكثير منهم للعمل بطريقة فردية وارتجالية بعيدا عن اللوائح والقوانين الضابطة والمنظمة.
التمحور حول أشخاص الراعين والداعمين لها.
عدم تمكنها من العمل باستقلالية بعيدا عن تأثير الدولة والقبيلة.
الافتقار إلى قاعدة بيانات ومعلومات تعرف بحجم إسهامها ومدى تأثيرها في المجتمع.
وترصد تقارير حقوق الإنسان المحلية والدولية انتهاكات يتعرض لها نشطاء مؤسسات المجتمع المدني، من ذلك ما يتعرض له نشطاء نقابيون وحقوقيون للملاحقة الأمنية والتضييق الاقتصادي كخصم جزء من رواتب المشاركين في تلك الاعتصامات والإضرابات وهو ما يخالف المادة 58 من الدستور.
هذه المعوقات التي تعاني منها تلك المؤسسات تجعل إسهامها في عملية الإصلاح السياسي المطلوب ضعيفا.
ويبقى بعيدا عن هذه العناوين مما يرسم المشهد السياسي في اليمن ويعرقل مسيرة الإصلاح النتائج المترتبة على تردي الأوضاع الاقتصادية والفساد المالي والإداري والصراعات المسلحة التي تتلبس أحيانا بأردية مذهبية مما يجعل من العافية المجتمعية المطلوبة لمواجهة التحديات الحضارية أمرا دونه الصعاب.

نقلاعن مركز الجزيرة للدراسات

في بناء الفكر

الكاتب: مختار الغوث
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قد يكون لزامًا على الذي يعتمد الإقناع أن يحدد دلالة ألفاظه أو ً لا ليتسنى قارئه أن يعي مقاصده، ويشتد
اللزوم حين تكون الألفاظ من المشترك، وفي دلالاتها ما لا يريد، أو تكون مما ينَفر منه - عاد ة - لأسباب
ثقافية أو علمية أو دينية.
والفكر والتفكير والعقل يراد بها في هذه المقالة: المنهج العلمي المنضبط بضوابط العقل في دراسة
الأشياء، لمعرفتها على ما هي عليه، دون تأثر بعاطفة أو معهود أو موروث، دراسة تتجاوز الظواهر كم ا
يبدو للحس أو الخيال الساذج، والظن غير مبني على  مقنِع، كما تتجاوز الإلف والعادة.
وهذا ما هو معناه عند فئة من الكتاب الإسلاميين المعاصرين، كما يبدو من قول بعضهم: " ..لفظ العقل
للدلالة على عمليات التفكير المنطقي التي تستخدم العمليات الذهنية، من تحليل وتركيب واستقراء واستنتاج،
. للانتقال من التصورات وتصديقات أولية إلى تثورات وتصديقات مركبة منها" 1
"نعني بالفكر في هذا السياق المنهجية التي يستخدمها العقل في النظر بحثُا عن الحق، ولا نقصد به
المحتوى الذي يصل إليه من الرؤى والأفكار، كما يتبادر إلى أذهان الكثيرين" 2، "لا نقصد بالعقل - هن ا -
الإمكانيات التي وهبها الله للبشر، والتي يستخدمونها في التعامل مع المعرفة، وإنما أقصد مجموعة المبادئ
. والمفاهيم والمعايير التي تشكل الرؤية الكلية لدى المسلم" 3
وهذا مفهومه أيضا عند غير الإسلاميين، كما يبدو من قول زكي نجيب محمود: " الناس - مهما اختلفوا في
تعريف العقل - متفقون على أنه ليس كائنًا قائمًا بذاته. ويلتقون على أن "العقل اسم يطلق على فعل ذي نمط
ذي خصائص يمكن تحديدها وتمييزها" 4، و"هو الحركة التي أنتقل بها من شاهد إلى مشهود عليه، ومن دليل
. 1 إعمال العقل، 62
. 2 عوامل الشهود، 147
. 3 تجديد الوعي، 23
. 4 تجديد الفكر العربي، 309
. إلى مدلول عليه، من مقدمة إلى نتيجة تترتب عليها، من وسيلة إلى غاية تؤدي إليها تلك الوسيلة" 1
ويقول برهان غليون: "ليس المقصود بالعقل - إذن - كما يبدو هو شائع، ملكه التفكير المجرد، ولا
المنهج العقلاني الفلسفي أو العلمي، ولا الإيديولوجية العقلانية التي ما هي إلا نتيجة لتحويل العقل إلى قيمة
ثابته واستخدامها في السجال الفكري. وإنما هو جملة من المفاهيم الراسخة والمترابطة ... يحاول المجتمع من
. خلالها وبها ... استيعاب الواقع الموضوعي وتمثله" 2
والعلاقة القوية بين التفكير والفكر والعقل هي التي جعلت الثلاثة تستعمل كثيرًا مترادفة. فالعقل هو
-كما يقول الراغب الأصفهاني -: " القوة المتهيئة لقبول العلم" 3، وكما يقول الحارث المحاسبي : "بصير ة
ومعرفة تم ّ كن الإنسان من تمييز الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والمصلحة من المضر ة" 4، وهذ ه
. البصيرة أو القوة "غريزة يولد العبد بها، ثم يزيد فيه معنى بعد معنى بالمعرفة بالأسباب الدالة على المعقول" 5
والتفكير هو استعمال هذه الملكة لمعرفة المجهول بالاستعانة بالمعارف والعلوم التي تسمى العقل
الأول 6، أو العقل المصنوع، أو المكتسب 7، والفكرهو نتيجة التفكير.
وَتَن ُ كب العقل بمعناه هذا يعني أن تكون المعرفة تعارفًا، واتفاقًا غير مبني على أساس، وهو تعطيل لهذه
الملكة التي هي جوهر الإنسان، وتعطيلها مما ذم الله به الكافرين إذ قال فيهم: {لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم
أعين لا يبصرون بها ولهم ءاذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون}.
"ومن عدل هذا المنهج ورام التحصيل كمن ترك طريق الكسب والحراثة رجاء العثور على كنز من
. الكنوز، فإن ذلك ممكن، ولكنه بعيد جدًا" 8
وقد شاع في بعض الحركات أن يقارن العقل بالروح، على وجه يظهر بينهما تباينًا أو تناقض ًا يبَنى
عليه تقديم أحدهما على الآخر، والدعوة إلى إعطائها العناية كلها أو جلها، أو إقصائه لأن سبيله غير ص راط
. 1 السابق، 310
2 اغتيال العقل، 165 وما بعدها.
. 3 المفردات في غريب القرآن، 341
.( 4 شرف العقل ماهيته، (نقلاً عن: إعمال العقل، 88
. 5 السابق، 87
. 6 تجديد الوعي، 210
. 7 الموضع السابق، والمفردات، 321
. 8 مسألة المعرفة ومنهج البحث عند الغزالي، 117
الله.
ونريد بالروح هنا: تعلق القلب بالله تعالى، وما يستتبع من التزكية والرياضة بشرعه، أي الإحسان.
وغير خاف أن التبين هنا تباين أغيار لا أضداد، فلا تنافي بين الاثنين، بل الروح والعقل متلازمان
للإنسانية الراشدة، فالروح لترقية الأخلاق وتربيتها، والعقل لتدبير المعاش وشؤون الحياة. وتختل الإنسانية
بقدر إختلال ما بين العقل والروح، ويستقيم أمرها بقدر حسن التوفيق والتلاؤم بينهما: فطغيان العقل على
الروح يعني استبداد المادة والمصالح الدنيا بالإنسان، كما قال الله عن الكافرين: " والذين كفرو ا يتمتعون
ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى" ، " إن الذين لا يرجون لقآءنا ورضوا بالحياة الدني ا واطمأنو ا به ا
والذين هم عن ءاياتنا غافلون - 7- أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون" .
وتخلف العقل عن الروح وطغيان الروح على الإنسان يساوي عبادة الشيخ بالطفل، فيجلعه ا رياضة
ساذجة منطوية على غفلة، لا يميز صاحبها واجبًا من ممكن أو محال، ولا يدري كيف يدبر شؤون حياته على
الوجه الأكمل.
وقد انتقد الإمام الغزالي التفريق بين الاثنين وأبان عن سلبياته، كما أبان عن وحدتهما في التصور
الإسلامي، فقال. إنهما مترادفان يدلان على معنى واحد، قال: " في القلب غريزة تسمى النور الإلهي، وقد
تسمى العقل، وقد تسمى البصيرة الباطنة، وقد تسمى نور الإيمان واليقين، ولا معنى للاشتغال بالأسامي، فإن
الاصطلاحات مختلفة، ولنسم تلك الغريزة عق ً لا، بشرط ألا يفهم من لفظ العقل ما يدرك به طريق المجادلة
والمناظرة، فقد اشتهر اسم العقل بهذا، ولهذا ذمه بعض الصوفية. وهذه الغريزة ُ خلقت ليعلم بها حقائق الأمور
. كلها، فمقتضى طبعها المعرفة والعلم" 1
وأوجب أن تقيد العبادة والرياضة بحقائق العلم خوفًا من أن تحيد بصاحبها عن سبيل العقل، فيفسد عليه
عمله: " إذا لم تتقدم رياضة النفس وتهذيبها بحقائق العلوم نشبت في القلب خيالات فاسدة، تطمئن النفس إليه ا
، مدة طويلة" 2
ويقول إن التصوف الذي هو عبادة ورياضة: "أوله علم، وأوسطه عمل، وآخره موهبة، فالعلم يكشف
. عن المواد، والعمل يعين على الطلب، والموهبة تبلغ غاية الأمل" 3
و" لا يجوز أن يظهر في طور الولاية ما يقتضي العقل باستحالته، نعم يجوز أن يظهر فيها ما يقصر
. 1 مسألة المعرفة ومنهج البحث عند الغزالي، 102
. 2 السابق، 114
. 3 السابق، 242
. العقل عنه، بمعنى أنه لا يدركه بمجرد العقل" 1
هذه هي العقلانية والروحانية الإسلاميتان والعلاقة بينهما. بيد أنه بضعف من التكوين العلمي والعقلي
ظن كل شي صلة بالعقل والمنهج العلمي مخالف للإسلام، ومناد للروح والإيمان. وقد يكون لغلبة العواطف
وتأثرها بتاريخ الكلمات وارتباطها بمذاهب معينة أثر في هذه النظرة أيضًا. فقامت في الخيال الثفافي علاقة
بين العقلانية والإلحاد وتقديم العقل على الوحي، لأن من الفلاسفة طائفة ترى " أن كل المشكلات الكبرى التي
تواجه البشر يمكن أن ندركها بالعقل... [و] أن الناس يستطيعون بالعقل وحده إدراك الحقيقة مباشرة " 2، وعليه
فلا حاجة إلى الوحي الذي قد يكون هو والدين كله مجرد خرافة أو أفيون، كما يقول الشيوعيون. وفي التاريخ
. الإسلامي كان بعض المذاهب يرى تقديم العقل على الوحي، تقديم ترتيب لا تقديم تفضيل 3
وليس الإسلامي الذي يجعل أزمة المسلمين في هذا العصر أزمة فكرية، ويعنى ببناء الفكر، وتغيير
منهج التفكير  ملزمًا شيئًا من ذلك كله، لبعد منطلقه من منطلقات تلك المذاهب وذلك التاريخ.
ويلح بعض الحركيين منذ حين على التربية الإيمانية ويقدمونها تقديمًا مطلقًا على التربية الفكرية، حتى
ليفرطون في الثانية تفريطًا شديدًا، بحيث تحصر في قراءة بعض كتاب الحركة الذين تخدم كتاباتهم هذ ا
المنهج. ولما ألح ثلة من المجددين الحركيين على ضرورة التقويم والمراجعة، وبدأت كتاباتهم تسلك سبلها إلى
أبناء الحركة قوبلوا بنوع من الشك والتربص، يستخفي تحتهما الرفض والمعارضة بذرائع شتى، ليس فيه ا
شيء مقنع، سوى أن من ألِف شيئًا لا يريد أن غيره، وإزداد الرفض بعد أن أصبح للتجديد أنصاره وفرض
على الساحة الفكرية نفسه بكتاباته المتميزة في أصالتها، وواقعيتها، وعمقها، ونقدها الإيجابي الذي مس مواطن
الخلل، وصدق إيمانها وإنتمائها، ومنهجها العلمي، وثقافتها الواسعة، فكثر ترداد هذ ا السؤال من بعض
الحائرين: الأولوية في التربية للروح أو للفكر؟
وهذا السؤال والاختلاف الطويل في إجابته مرجح من مرجحات أن الأزمة فكرية أو ً لا، كما سوف نرى
– إن شاء الله -، ودليل على أن المنهج العلمي الذي سميناه آنفًا العقل غير مستمكن، فلذلك يدور المختلفون
حول الأعراض ولا يفطنون إلى الأمراض، ويكثرون الحوار العقيم، وينقضون كل يوم ما ينوا أمس.
وأحسب أن السؤال تستكن تحته – أيضًا – قضية أخرى هي أثر من آثار التكوين النفسي الثقافي
التاريخي: هي علاقة الوحي بالعقل.
ومما لا يستطاع إنكاره تأثر الفكر الحركي في العقود الأخيرة بالفكر الحنبلي المتأخر الذي يتسم
. 1 مسألة المعرفة، 114
.324/ 2 الموسوعة العربية العالمية، 16
. 3 انظر: معرآة المصطلحات بين الغرب والإسلام، 153
بحساسية مفرطة من العقل، مردها إلى قواعده الأصولية في الفقه، ومذهبه في العقيدة، ثم موقفه التاريخي من
الاعتزال، وما كان بينه وبين الحنابلة من خلاف، وعلاقة المعتزلة بالعقل.
وبقدر سلامة المرء من التأثر بهذا الفكر يكون نظره إلى القضية، لأن كثيرًا من علماء المذاهب
الأخرى- وإن خالفوا المعتزلة – كانوا يعرفون للعقل مكانته في الشرع، وليس عندهم حساسية من الاعتزال،
لأنهم بمنطق العقل فككوه، وأنهوا وجوده إلا في كتب بقيت معبرة عن تاريخ، أكثر من تعبيرها عن وجود
واقعي.
وقد تناول الإمام الغزالي موقف هذه الفئة من الحنابلة من العقل وانتقد إنتقادًا شديدًا وأبان أن مذهب
أهل السنة في العقل وسط بينهم وبين المعتزلة والفلاسفة، فقال: " وأنى يستتب الرشاد لمن يقنع بتقليد الأثر
والخبر، وينكر مناهج البحث والنظر؟ أولا يعلم أنه لا مستند للشرع إلا قول سيد البشر صلى الله عليه وسلم؟
وبرهان العقل هو الذي  عرف به صدقه فيما أخبر؟ وكيف يهتدي للصواب من اقتفى محض العقل واقتصر،
وما استضاء بنور الشرع ولا استبصر؟ فليت شعري كيف يفزع إلى العقل من حيث يعتريه العي والحصر؟
أولا يعلم أن العقل قاصر وأن مجاله ضيق منحصر؟ هيهات! قد خاب على القطع والبتات، وتعثر بأذيال
. الضلالات من لم يجمع بتأليف الشرع والعقل هذا الشتات" 1
"فإياك أن تكون من أحد الفريقين، ولكن جامعًا بين الأصلين، فإن العلوم العقلية كالأغذية والعلوم
الشرعية كالأدوية، وظن من ظن أن العلوم العقلية مناقضة للعلوم الشرعية، وأن الجمع بينهما غير ممكن،
." وهو ظن صادر عن عماية في البصيرة 2
ثم مست القضية بعد هذا خصوصيات الأشخاص النفسية والعقلية والثقافية وميولهم وما ألفوا، فراموا أن
يغلوا العقول عن تجاوز حل ألفاظ الوحي كما حلها المتقدمون، واستخراج ما اشتملت عليه من أحكام مقررة،
وفوائد قريبة، ورأوا أن هذا منهج السلف ومقتضى الاتباع، فالسلامة لزوم ما لزموا، والسكوت عم ا سكتو ا
عنه.
ولا يخفى عدم سداد هذا النهج، كما لا تخفى سلبيته التي تحرم الأمة من وحي خوطبت به كلها في كل
زمان ومكان، وتجعل أمرها في دينها ودنياها إلى الأموات يفكرون لها ولا تفكر لنفسها: " لقد خصوا الموتى
بمهمة التفكير للأحياء، حتى ولوا كان تفكيرهم هذا قد ارتبط بأحكام تخلفت شروط إعمالها، أو بعادات تغيرت،
. أو بأعراف تبدلت" 3
1 الاقتصاد في الاعتقاد، 4
2 مسألة المعرفة ، 251
. 3 النص الإسلامي، 38
وتنحصر مهمتها في ترداد ما قيل في القرون الخوالي.
ولقد نشأ هذا الفكر السلبي من عدم المنهج العلمي، فكانت القضية على هذه الصورة من البساطة، لأن
أصحابه لا يميزون المنهج العلمي الذي يجب على المسلمين اتباعه في التعامل مع الوحي وألا يختلف فيه
متقدمهم ومتأخرهم من نتائج هذا المنهج التي يسوغ الاختلاف فيها الآن، كما ساغ قبل الآن بين الصحابة وبين
كل من تلاهم.
ولهذا صار كل فهم للدين قديم حجة على الناس، وإن كان متأثرًا بمزاج صاحبه وخصوصيته الزمانية
والمكانية والنفسية.
وقد نبه الإمام الغزالي – رحمه الله – إلى خطأ تعميم بعض الفهوم، والغفلة عن خصوصيته ا عند
الصوفية والمفسرين، فقال: "كلام الصوفية أبدًا يكون قاصرًا، فإن عادة كل واحد منهم أن يخبر عن حال نفسه
. فقط، ولا يهمه حال غيره، فتختلف الأجوبة لاختلاف الأحوال" 1
وقال عن أهل التفسير: " إن من زعم لا معنى للقرآن إلا ما ترجمه ظاهر التفسير فهو مخبر عن نفسه،
. وهو مصيب في الإخبار عن نفسه، لكنه مخطئ في الحكم برد الخلق كافة إلى درجته" 2
وقارئ التراث العربي يعلم أن هذا الكلام يصدق أيضًا على غير هاتين الطائفتين من بعض المتقدمين.
" إن تاريخًا يقف متحجرًا مزينًا في مخيلتنا، يضفي على كل التراث المجيد حلة القداسة ما هو إلا حجاب بيننا
وبين نور الوحي الذي أنزله الله تعالى لأهل الأرض ليسعى على ضوئه أهل الأرض بتكليف واحد الروح
. متجدد الأسلوب" 3
وإذا كانت " الفقهيات كلها نظر من المجتهدين في إصلاح الخلق" 4 ، فيجب أن يكون لكل زمان
مجتهدوه الذين ينظرون في صلاح زمانهم. وقدر المتقدمين ومحبتهم لا يصح أن يحملا على قبول كل ما قالوا
دون تحميص ومقايسة، فالضعف والنقص والمحدودية صفات لا يبرأ منها إلا الأنبياء – عليهم السلام -.
قال ابن الجوزي: " ولقد سبرت السلف كلهم، فأردت أن أستخرج منهم من جمع بين العلم حتى صار
من المجتهدين، وبين العمل حتى صار قدوة للعابدين، فلم أر أكثر من ثلاثة: أولهم الحسن البصري، وثانيهم
سفيان الثوري، وثالثهم أحمد بن حنبل ... وإن كان في السلف سادات، إلا أن أكثرهم غلب عليه فن فنقص من
. 1 مسألة المعرفة، 55
2 السابق،
. 3 حوار مع الفضلاء الديموقراطيين، 129
. 4 حوار من الفضلاء الديموقراطيين، 154
. الآخر" 1
وقال في إنتقاده ترك التدبير على بعض الزاهدين: " وقد جاء أقوام ليس عندهم سوى الدعاوى، فقالوا:
هذا شك في الرازق، والثقة به أولى، فإياك وإياهم. وربما ورد مثل هذا عن بعض صدور الزهاد من السلف،
فلا يعول عليه، ولا يهولنك خلافهم" 2. وقال الراغب الأصفهاني عن قلة من جمع بين معرفة الدني ا ومعرفة
الآخرة: " ولا يكاد يجمع بين طريق معرفة الدنيا والآخرة معًا على التحقيق والتصديق إلا من رشحهم الله
. تعالى لتهذيب الناس في أمر معاشهم ومعادهم جميعًا ، كالأنبياء وبعض الحكماء" 3
وإذا فقه المرء هذه القضية لم يجعل كل قول للسلف سلطانًا على نفسه، لا يعدوه، وحجة في الأمر لا يحيد
عنها، وتجنب تعميم الأحكام المبنية على أقوالهم، ولم يجعلها ملزمة للمسلمين، وفعل مثل ذلك بكل عظيم
يقتدي به، فأنزله منزلته غير غال فيه، ولا مقصر به عنها.
وقلَّ من يعي هذا، وعدم وعيه أثر من آثار التكوين غير العلمي، كما أنه أثر من آثار ثقافة " المنسحب
من الحضارة" الذي يتعلق بالأشخاص من حيث هم، دون وعي أو فقه لتراثهم؛ لأن عقله صيغ على التسليم
المطلق لكل ما ورد عمن يعظهم، كما صيغ على التلقي دون تفكير.
وقد أشار عمر عبيد حسنة إلى وجود هذا عند الحركات الإسلامية: لكن المشكلة التربوية الحقيقية، أو
بعبارة أدق " الخطورة التربوية" في هذا المجال: عندما تتحول هذه الرموز وتلك النماذج إلى أوثان وأصنام
من دون الله... فبدل أن تكون ممثلة ومجسدة للمثل الأعلى تصبح هي المثل الأعلى والمقياس لكل شيء،
. يوزن بها الحق ولا توزن به" 4
وقد سمى الشيخ عبدالسلام ياسين هذا الضرب من حب السلف بالتقوى المزيفة، فقال: " لا بد أن نتحرر
من ربقة التقوى المزيفة، التي تريد أن نسكت عن شيء سكت عنه أجيال من علمائنا العظام" 5 ، والسكوت عما
سكتوا عنه، كالوقوف عند كل ما قالوا لأنهم قالوه، ودافعه هذه التقوى المزيفة، المبنية على حب وحسن نية –
إن حمدا في ذاتهما- ما ينبغي أن يحمد ما ينتجان.
وقبل أن أنتقل إلى الحديث عن دواعي الحاجة اليوم إلى الفكر أحب أمس جواب السؤال المتقدم : أي
الأمرين نحن اليوم إليه أحوج: التربية الروحية أم التربية الفكرية؟ فالإجابة عنه تتجلى الدواعي كثير ًا.
. 1 صيد الخاطر، 87
. 2 السابق، 92
. 3 الذريعة إلى مكارم الشريعة، 173
. 4 مراجعات في الفكر والدعوة والحرآة، 72
. 5 حوار مع الفضلاء الديموقراطيين، 231
وأحسب أن الإجمال في هذه القضية من آثار الخلل في التفكير، فالمسلمون، ومنهم أبناء الحركات الإسلامية
متباينون في العقول والهوايات والميول والإستعداد والأمزجة تباينهم في هيئات الأبدان، وكلهم ُ خلق لمهمة
غير التي ُ خلق لها الآخر، فالتسوية بينهم ظلم لهم وللأمة، لا ينتج إلا ضررًا، وهو – بعد- مباين لسنة من
سنن الله، أبان عنها قوله تعالى: " نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض
درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا".
فشغل الذي خلق للقيادة، والفروسية بالأوراد والنوافل عن المجال الذي خلق له قتل لموهبته، ورزء
جلل للأمة في طاقته، والاشتغال بإعداد ذوي العقول البسيطة بفنون القيادة وعلومها مضيعة للوقت، وتأهيل
للمرء لا يحسنه، وتعجيل بساعة ما يعد لتوليه: " وإذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة".
وكان شيخ السلطان محمد الفاتح حكيمًا، فقد عتب عليه السلطان إذ لم يعطه ورد الطريقة، على حين
يعطيه عوام الأتراك، فقال له: إني أدخرك لما هو أعظم من الورد، فلما فتح القسطنطينية قال له شيخه: لو
شغلتك بالطريقة وأورادها أكنت تفرغ لهذا الفتح العظيم؟
وقال الإمام الغزالي: " الحكمة تقتضي شمول الغفلة لعمارة الدنيا، بل لو أكل الناس كلهم الحلال أربعين
يومًا لخربت الدنيا، لزهدهم فيها، وبطلت الأسواق والمعايش، بل لو أكل كثير مما انتشر من العلوم، ولكن لله
تعالى فيما هو شر في الظاهر أسرار وحكم، كما أن له في الخير أسرارًا وحكمًا، ولا منتهى لحكمته، كم ا لا
. غاية لقدرته" 1
وكان النبي (ص) يعلق كل واحد من صحابته بعمل يمدحه له ويرغبه فيه، حتى كأنه خير الأعمال
وأرجاها عند الله؛ مراعاة للقدرات والاستعداد والحاجة، كما قال ابن عجيبة: " ومن تأمل الأحاديث النبوية
وجدها على هذا المنوال؛ لأن النبي (ص) سيد العارفين، وقدوة المربين؛ فكان يقر الناس على ما أقامهم الله
في حكمتهم؛ فلذلك تجد الأحاديث متعارضة، ولا تعارض في الحقيقة، فإذا نظرت في أحاديث الذكر قلت : لا
أفضل منه، وإذا نظرت في أحاديث الجهاد قلت: لا أفضل منه، وإذا نظرت في أحاديث فضل العلم قلت : لا
أفضل،... فكل حكمة رغَّب النبي (ص) فيها حتى تقول: لا أفضل منها؛ تطييبًا لخاطر أهلها؛ ليكونوا فيه ا
على بينة من ربهم، ولم يأمرهم – عليه الصلاة والسلام – بالإنتقال عنها؛ إذ مراد الله منهم هو تلك الحكمة...
وهو كذلك، إذ لا أفضل منها في حق أهلها" 2، وربما في حق الأمة أيضَا.
ومع مراعاة الفروق والمواهب يجب أن يكون بين المسلمين مشترك من الإيمان والتقوى واجتناب الكبائر،
والمحافظة على الفرائض، والأخلاق الفاضلة، من صدق، وعدل، وإيثار، ورحمة، وأمانة، وإخلاص، وتوكل
على الله، وتعلق به، إلخ.
1 مسألة المعرفة، 247 وما بعدها.
2 إيقاظ الهمم في شرح الحكم، 61 وما بعدها.
ولن يتساوى المسلمون في ذلك، وإن أخذ كل بنصيب منه، وذلك معنى قوله تعالى:" ثم أورثنا الكتاب الذين
اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله" .
تلك حقيقة شرعية، وسنة كونية، لا يصح إغفالها.
والحكم على أمر بالأولوية دون غيره يكون بإعتبار حال الفرد، أو باعتبار حال الجماعة، أو بإعتبارهما معًا،
والذي يقدم أحد الأمرين على الآخر هو الواقع، لا التقدير وحده.
لقد أفقنا – منذ عقلنا – على الدعاة وهم يرددون أن علة ضعفنا وهواننا وحالنا البيئسة ضعف إيماننا، وبعدن ا
عن الله، وأنه لا عزة لنا إلا بالعودة إلى الله، واتباع ما كان عليه أول الأمة: " لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما
صلح به أولها".
ولسنا نختلف في أننا ضعاف الإيمان، قليلو الإحسان، بعيدون عن الصورة الإسلامية التي أراد الله أن
نكون عليها: " كنتم خير أمة أخرجت للناس"، ولا مقارنة بيننا وبين سلف الأمة، ولا سيما صحابة رسول الله
"ص"، ولا عزة لنا إلا بدين الله، واتباع سبيل من أناب إلى الله، بيد أن الوقوف عند هذا الحد يبدو وقوف ًًا
عاطفيًا سطحيًا، يمس عرضًا من أعراض المرض، دون المرض نفسه، فضعف الإيمان والبعد عن الله لا بد
لهما من علة هي أحدثتهما؛ لأن الشيء لا يكون علة نفسه، وهذه العلة ينبغي أن تكون متناهية، أي غير
متسلسلة ، فلا تتوقف على غيرها.
وضعف الإيمان والبعد عن الله لم يكن أمرًا أو قاعدة يصح طردها على المسلمين جميعًا بقدر واحد،
طوال الزمن الذي سبق الاستعمار، وقبل تفاقم الأزمة وتعقدها. فقد كان بعض بلاد المسلمين – قبل أن
يستعمر – يعج بعباد الله الصالحين الزاهدين المتبتلين في الزوايا والمساجد العامرة بالمريدين الذين قطعو ا
صلتهم بما سوى الله، ومن لم يسلك طريق هؤلاء كان يملأ قلبه حبهم والإعجاب بهم ولهم صولة على قلبه
تجعلهم قدوته، وتعصمه من اتباع من يخالف نهجه ونهجهم، وإذا نصحوه انتصح، وأينما وجهوه اتجه. وكان
لبعض الطرق الصوفية، حتى بعد الاستعمار الأعمال الجليلة غير المنكورة، في الزوايا التي تجمع بين الدني ا
والآخرة جمعًا رائعًا، كالطريقة السنوسية، التي حملت – فوق ذلك- لواء الدعوة إلى الله في أرجاء أفريقي ا
السوداء، وكانت لها في هداية الخلق إلى الله الأيادي البيضاء، كما كان لها بعد وقوع الاستعمار في ليبيا شرف
حمل لواء الجهاد في سبيل الله.
وبلغ ما بنت من الزوايا بين الحجاز وغرب الصحراء الكبرى مائة وأربعين زاوية. وروى الإمام البنا
– رحمة الله عليه- في مذكرته صورًا رائعة من التربية الإحسانية التي كان يقوم به ا أصحاب الطريقة
الشاذلية الحصافية في مصر، كان هو وحركته (الإخوان المسلمون) من أجل حسناتها.
ويعرف دارسو تاريخ موريتانية وفرة الأولياء والصالحين في القرون التي سبقت الاستعمار، ووفر ة
العلماء الربانيين وانتشار مدارس العلم المستقرة والمتنقلة، وعكوف أهل هذا الإقليم على العلم الشرعي
وتفرغهم له تفرغًا منقطع النظير، أعان عليه حياة البداوة وقلة تكاليفها، وسلامة الفطرة، والبعد عن فسوق
المدن وماديتها.
ثم استعمرت موريتانية ومصر والصحراء الكبرى وأفريقيا السوداء كلما مسلمها وكافرها، كما استعمرت الهند
الهندوسية، وبورمة البوذية، والصين الكنفوشيوسية، وغيرها من الدول الوثنية، فهل كان استعمار تلك البلاد
الإسلامية أثرًا من تخلف الروح وقلة الدين، أم كان أثرًا من آثار تخلف العقل، اشتركت هي وغيرها من الدول
الكافرة التي شاكلتها فيه؟
لقد شاع أن سبب التخلف ضعف الإيمان والبعد عن الدين، حتى أصبح شبه عقيدة، وعادة يضطرب بها
لسان كل داعية وخطيب، وقلم كل كاتب، وينظر إلى من يدعو إلى مراجعة هذه العقيدة لبنائها على أساس من
العلم نظرة ريب في عقيدته، بيد أن وضوح الحق للعقل وضوح الشمس وسط النهار لا يدع مجا ً لا للنكوص،
ولا سيما بعد أن فشلت تلك العقيدة وعجزت عن نقلة الأمة من مرقد البؤس والهوان، ولقد قال سيدي أبو حامد
الغزالي نضر الله عظامه: " لا ينبغي أن تضع الحق المعقول خوفًا من مخالفة العادات المشهورة، بل
. المشهورات أكثر ما تكون مدخولة، ولكن مداخلها دقيقة لا ينتبه لها إلا الأقلون" 1
إن منشأ الأزمة فكري قبل كل شيء، وما نشكوه من ضعف الإيمان والبعد عن الله هو أيضًا من أثر
اختلال الفكر، والكفر وكل ما تفرع عنه من مخالفة للشريعة أثر من آثار إختلال التفكير وموازين العقل،
ولذلك قال الله عن الكافرين: "كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جآءنا نذير فكذبن ا
وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير ( 9) وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب
." ( السعير( 10
فعدم العقل هو سبب الكفر، وتقدم قول الله تعالى عن الكافرين: " لهم قلوب لا يفقهون بها..." .
ولما كانت التقوى ثمرة العقل قال أحد السلف الصالح: " ترى الرجل لبيبًا داهيًا فطنًا ، ولا عقل، فالعاقل من
. أطاع الله عز وجل" 2
وقال النبي (ص) لخالد بن الوليد: " قد كنت أرى لك عق ً لا رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير".
وقال لأخيه في رسالة حمله إياها إلى خالد: "أما بعد فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك
عقلك".
لقد أطلنا الدندنة حول الفكر، وآن لنا أن نلجه. لقد ُقدم في صدر هذه المقالة معنى الفكر والعقل الذي
. 1 مسألة المعرفة، 229
.( 2 الإحكام في أصول الأحكام، 7 (نقلاً عن : إعمال العقل، 70
نعني، وإذا استحضرنا ذلك التعريف أصبح عندنا من البدهيات أن نرد أزمتنا إليه أو ً لا، لأن الفكر هو وسيلة
الإدراك، ووسيلة وضع المنهج لشفاء العلل، ووسيلة متابعتها حتى تشفى، فإذا فقد تعذر الإدراك ، وإذا تعذر
الإدراك تعذر كل ما بعده، فكل شأن من شؤون الحياة متوقف صلاحه على صلاح العقل حتى قضية الالتزام
. والتعامل مع الوحي وفهمه، وليس صلاح العقل متوقفًا على شيء آخر 1
" والمتأمل في الوضع الإسلامي – اليوم – من حيث منهجية التفكير التي عليها المسلمون يدرك بحق أن
الأزمة التي تعانيها الأمة الإسلامية هي في قدر كبير منها أزمة فكرية تتمثل في عطالة الفكر الإسلامي عن
إنتاج سبل التنمية، وعطالته بالتالي عن إحداث النهضة؛ ذلك أن هذا الفكر أصابه من الإنحراف عن خصائصه
الأصلية التي تكونت بالدفع القرآني ما عطل فيه القدرة على تبين المسالك الصحيحة، سوآء في مستوى الفهم
. لإدراك الحقيقة النظرية، أو في مستوى التخطيط لرسم المشاريع العملية" 2
وهذا التعطل الفكري يبنى عليه جل ما تعيشه الأمة من إخفاق وتأخر في تنفيذ المشاريع الإسلامية التي
وعدت بها الحركات الإسلامية المعاصرة؛ لأنها أسست من أول يوم على التربية الإحسانية، وإعادة المسلمين
إلى دينهم الذي اجتالهم عنه الاستعمار ووكلاؤه، وإعادة الثقة به إلى أنفسهم، ثم ظلت فئة كبيرة منها على م ا
أُسست عليه، ولم تتطور كثيرًا، بل أصابها ما يشبه الترهل والضعف، وصار خطابها شبه خطابي عاطفي
انتظاري، يتوقع أن ينزل النصر من السماء بمجرد اكتساب مزيد من الأعضاء، والتزام الأعضاء مقتضى تلك
التربية، وحينما رسخت هذه الأفكار المرجوة في نفوس المسلمين كافة، لا أبناء الحركات فحسب، لم يتبع ذلك
تصور نظري ينقل المسلمين إلى المرحلة التي يجب أن تليه. و" حين تستنفد دعوة أو فكرة أغراضها، وتنجح
في إيصالنا إلى أهدافنا فإنه يجب أن نتخلى عنها، كما نتخلى عن الأفكار والأساليب العقيمة والمخفقة؛ لأن ك ً لا
منهما صار غير ذي فائدة" 3، و" الصحوة كانت في بواكيرها حركة وعي وتعبئة ودفاع عن النفس، وإثبات
للوجود، وتحقيق للذات، أكثر من أن تكون حركة نهضوية متكاملة، تضبط النسب، وتبصر الحاجات، وتوفر
. التخصصات المطلوبة، وتؤمن بضروريتها، وتدرك أهميتها، الأمر الذي أصبح من الضروريات اليوم" 4
وكان الدكتور حسن الترابي من أول من أدرك هذه القضية ونبه إليها، ووضع الخطط للتجاوز إلى
متطلبات المرحلة الجديدة، فقال في صدر محاضرة له في جامعة الخرطوم، عام 1977 م: "أما بعد، فلم تعد
حاجتنا الأكبر أن ندفع عن الإسلام أو نعتذر له، أو ندحض عنه شبهات المفترين؛ لقد تمكنت عقيدة الإسلام،
وتوطد مذهبه بعد أن اصطرع مع المذاهب المستوردة حينًا من الدهر. فد استقام أمره اليوم، وأص بح لزام ًا
. 1 من أجل انطلاقة حضارية، 61
. 2 عوامل الشهود الحضار، 149
. 3 تجديد الوعي، 18
. 4 مراجعات في الفكر والدعوة والحرآة، 46
. على المسلمين بيان الإسلام، بإيجاب يصبح معيارًا للاعتقاد وللسلوك" 1
بيد أن بعض الحركات الإسلامية ظلت بنجوة من الاستجابة لهذا المطلب، وأصرت على أن تستمسك
بما درج عليه سلفها من أول يوم، وأن تظل في ترداد ما كتب روادها الأولون لا تتجاوزه، بذرائع شتى، منها
توحيد فكر الحركة، وتنشئة أبنائها على منهجها وتصورها وتربيتها، ومنها مخالفتها للنهج الفكري الذي ترى
أنه يباين منهجها الرباني، فحصرت نفسها في كتابات رجال من روادها هم: سيد قطب، ومحمد قطب، وفتحي
يكن، ويوسف القرضاوي، ومحمد الغزالي، وفي العقدين الأخيرين محمد أحمد الراشد، وإن خرجت عن هؤلاء
لم تخرج إلا إلى من يعيد أفكارهم، حتى تلك التي كتبت منذ نحو خمسين عامًا في أحوال زالت، أي إنه ا:
أعجزت عقليتها الحزبية " عن الإفادة من الكفاءات الموفورة في العالم الإسلامي، خارج جماعتها، وحرمته ا
من الموارد الثقافية المتعددة، من غير إنتاجها، الأمر الذي أدى إلى عزلتها الثقافية والفكرية، وفقر مكتبته ا ،
ودفع بعض أفرادها غير المؤهلين إلى التطاول على تناول مسائل فكرية وثقافية خطيرة بدون ثقافة نضيجة
... بل لعل الأسوار الحزبية السميكة كانت لازمة في في نظر بعضهم؛ للاحتفاظ بالرصيد البشري من الأتباع
وبالإقطاعات البشرية" 2. وحرمت نفسها من نتاج عمالقة من المفكرين الإسلاميين الذين أمضوا زهرة أعمارهم
في الدعوة إلى الله ، والتمكين لدينه، وحرمت منه أبناءها، وصرفتهم إلى ما يعلم الطاعة والجندية والتضحية،
وخدمة مادة الحركة؛ ففاتها وفاتهم خير كثير، وتجربة عظيمة، وآراء سديدة، هي التي سيكون لها المستقبل،
إن أراد الله بهذه الأمة خيرًا، ورضيت أن تطفئ سرج عقول شبابية فذة، لو وجهتها التوجيه الصحيح، وبنت
عقولها كما ينبغي أن تبنى العقول لكان لها في أبناء الأمة وإنهاضها شأن أي شأن، وتذرعت إلى ما فعلت بما
تسميه التربية الإيمانية، وأن الإيمان إذا قوي تحقق المراد، فانتهت إلى ما يغيظ الصديق ويسر العدو، وعضت
بالنواجذ على ما انتهت إليه، وأصمت الآذان عن الناصح المشفق، ورضيت بأحلام اليقظة، تراها وتريها من
يطيعها!!
ولقد كان ينبغي أن يكون انتاج الإنسانية كلها مفتوحًا للاستفادة؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن، يطلبها في
كل مظنة من مظانها، فكيف إذا خرجت من وعاء إسلامي؟
"وإنما الأدب عقل غيرك تزيده في عقلك " 3، كما قال الجاحظ، ويعني بالأدب الفكر وما سميناه المنهج العقلي.
وقد ترك هذا المنهج في الصحوة الإسلامية آثارًا سلبية عظيمة الضرر شوهت عملها ، وعرقلت مشاريعها،
وجعلتها نسخة من المجتمع بسلبياته وغثائيته وشكلياته وعدم فاعليته، وبساطته وغفلته، وجعلت وعيها أسير ًا
لوعي المجتمع الميت، تتحكم فيه ثقافته وأفكاره أكثر مما يتحكم فيه الوعي الإسلامي الأصيل؛ لأن " وعي
. 1 تجديد الفكر الإسلامي، 1
. 2 مراجعات في الفكر والدعوة والحرآة، 125
.96/ 3 رسائل الجاحظ (رسالة المعاد والمعاش)، 1
الفرد يظل مسورًا إلى حد بعيد بمستوى الوعي السائد في مجتمعه ...[ لأن ] الجماعة تفرض على الوعي
قيودها وشروطها المؤدية إلى التماهي مع ثقافتها وطريقة استيعابها للتاريخ والواقع" 1. كما جعلتها تردد أبد ًا
أفكارًا وشعارات تجاوزها الزمن، تقف على أطلالها أبدًا، تحسب أنها منزل متجدد لا يتحول عنه، مع الثقة
المطلقة بكل ما تأتي، والإعراض المطلق عن كل ما يجد، وبعد بينها وبين الواقع، فقنعت بأن تتصدى
لمعضلات الحياة المستقبلية والواقعية بوعود غير محددة، وبالإحالة الغامضة على شرع الله، بأن فيه علاج ًا
لكل داء، وح ً لا لكل مشكل، ويوم يكون التمكن يقع المبتغى على أكمل وجه.
وتحت هذا رفض للأفكار التقدمية العلمية، المبنية على دراسة شرعية أصيلة وعميقة، رفض بمنطق غير
علمي ينبئ فيما ينبئ عنه بعدم استيعاب، وعدم أهلية للقيادة، وضعف في التفكير.
وعلقت المشكلات على الخارج وأزيحت عن النفس، إلا ما كان من ضعف الإيمان والبعد عن الله، أما غير
ذلك فالبلاء من الحكام ومن الاستعمار ومن المؤامرات. وهذا – مع ما فيه من عدم عمق الفكر وتنكب
الأساليب العلمية في الدراسة والتحليل – مناف لقول الله تعالى: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيرو ا م ا
بأنفسهم " ، " ذلك بأن الله لم يك مغيرًا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" ، " قل هو من عند
أنفسكم" .
فالسبب الداخلي الذي نخر الفكر الإسلامي، وهيأه لإنتاج الأفكار المميتة، وتقبل الأفكار القاتلة، وحصر عمله
في اختصار ما طول، ونظم ما اختصر، وحفظ ما نظم، وشرح ما اختصر – هو الذي جعل العالم الإسلامي
قاب ً لا للإستعمار فيما صنع زائدًا فعله على ما تصنع الريح التي تهب على غصن بليت علاقته بأصله من
الشجرة فهو يوشك أن يسقط، فعجلت بسقوطه، ولو لم تهب الشجرة فهو يوشك أن يسقط، فعجلت بسقوطه،
ولو لم تهب لسقط 2. وما الحكام إلا صورة من المجتمع، لأنه هو الذي أنتجهم وبثقافته غذوا وصبغت عقولهم،
و" كما تكونوا يول عليكم".
على أن التفكير السببي قد اختل بإختلال التفكير كله، فلم يعد ثمة ترتيب لأمر على آخر ترتيب ًا علميًا؛ لأن
الأمور تنسب إلى غير مقدماتها، ومقتضى التوكل يخالف ترتيب مسبب على سبب؛ لأن الأسباب في الحقيقة لا
تعمل بذاتها، و" الله تعالى يهب الفلاح في الأعمال دون أن تمر هذه الأعمال بطريق سننه في الكون القائمة
على السببية. ثم هم نتيجة هذا التوهم إما يقعدون عن العمل أص ً لا، أو يعملون على غير منهج الأسباب،
. وينتظرون في ذلك العطاء الإلهي المجاني، دون التزام التوكل الحقيقي" 3
وبهذا الاختلال صار شق كبير من المسلمين يفتقر إلى عقلية البحث العلمي " الذي هو تعبير عن الحس
. 1 تجديد الوعي، 8
. 2 في النقد الذاتي، 105
. 3 عوامل الشهود الحضاري، 54
. السببي، إذ هو في حقيقته بحث عن العلاقات السببية في الطبيعة والحياة" 1
وليس المرء في حاجة إلى مناقشة هذا الخلل مباينته للشرع، لأن الذي يؤمن بالله لا يرى في الوجود على
الحقيقة سوى آثاره، ولكن الله " أجرى عادته وطرد سنته بترتيب بعض مخلوقاته على بعض؛ لتعريف العباد
عند وجود الأسباب ما رتب عليها من خير فيطلبوه عند وقوعها ووجودها، وما رتب عليها من شر فيجتنبو ه
. عند قيامها وتحققها" 2
ولقد أحسن الجاحظ إذ قال: " واحذر كل الحذر أن يختدعك الشيطان عن الحزم، فيمثل لك التواني في صورة
التوكل، ويسلبك الحذر، ويورثك الهوينى بإحالتك على الأقدار؛ فإن الله إنما أمر بالتوكل عند انقطاع الحيل،
والتسليم للقضاء بعد الإعذار، بذلك أنزل كتابه، وأمضى سنته، فقال: " خذوا حذركم" ، " ولا تلقوا بأيديكم إلى
. التهلكة"، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " اعقلها وتوكل" 3
ومن آثار هذا النهج غلبة ما يشبه الدروشة والبساطة على بعض المنتمين إلى بعض الحركات، لأن أكثر م ا
ا  عتني به منهم إبان التربية كان تعليم الأخلاق والطاعة وسلامة الصدر والإنقياد دون تفكير أو تبصر، فكان
خريجو هذه التربية صالحين في أنفسهم لأنفسهم، ولكنهم غير صالحين للبناء الحضاري المرتقب؛ لأنهم لا
يملكون إلا الطيب وسلامة الصدر، ويظهر ذلك جليًا في صنعهم بما يوكل إليهم من أعمال، فإن أداءهم فيه ا
ضعيف جدًا، وقد يكون دون أداء من هو أقل منهم إلتزامًا للدين، كما قال أحد الكتاب: " كثيرًا ما ترى – اليوم
من يقصر في متطلبات عمله المهني، ويقصر كذلك في دوره في الفروض الحضارية، على حين تجده سباق ًا
في أمور التعبد أو أداء الشعائر، مما انتهى بمعظم مجتمعاتنا أن تكون عالة على الأمم الأخرى في معظم
شؤون عيشها، بل وأمور دينها؛ فنحن لا نصنع من الآلات والمعدات ما نطبع به في مصاحفنا، ولا ما نشيد به
. مآذن مساجدنا" 4
وهذا الإنتاج سوف يعرقل المشروع الإسلامي طوي ً لا، إذا قدر للحركات أن تستولي على الجانب السياسي من
الحياة؛ لأنها لا تملك البناة والكوادر المتميزة المنتجة الفاعلة، ولا القواعد الإيجابية الواعية. وإذا وكلت شيئ ًا
من أمور الدولة التي تسوسها إلى غير أبنائها راقبته، وألزمته أن يتصرف كما تريد، وأفسدته بيد من ولَّت.
وليس ينكر مسلم أهمية التربية الإحسانية؛ لكن فاعلية الإسلامي ونفعه للمشروع الإسلامي كان ينبغي ألا يكون
أقل أهمية في التربية الإحسانية؛ لأن تقوى المرء في جانب كبير منه لنفسه، وضعفه على الأمة، وقوته كله ا
. 1 السابق، 57
. 2 قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 16
.121/ 3 رسائل الجاحظ ( رسالة المعاد والمعاش)، 1
. 4 تجديد الوعي، 25
لها، كما قال عمر بن الخطاب- رضى الله عنه – لمن خيره بين استعمال رجل صالح في نفسه، ضعيف في
عمله، ورجل قوي في عمله ضعيف في دينه.
على أن الشمولية الإسلامية التي يؤمن بها كل إسلامي إيمانًا نظريًا لو  مثلت تمثي ً لا عمليًا لقلت هذ ه السلبية
كثيرًا، فصلاح الفكر صلاح لدنيا المرء وآخرته؛ لأن العقل إذا كان هو الموجه وصلح في نفسه أحسن التوجيه
في الدين كما يحسنه في الدنيا، كما قال الجاحظ أيضًا: " واعلم أن الآداب إنما هي آلات تصلح أن تستعمل في
الدين وتستعمل في الدنيا، وإنما وضعت الآداب على أصول الطبائع، وإنما أصول التدبير في الدين والدنيا
. واحدة، فما فسدت فيه المعاملة في الدين فسدت فيه المعاملة في الدنيا" 1
وزاد الأمر سلبية أن هذا النمط من التربية أصبح ثقافة جديدة في المجتمع انتقلت إليه من الصحوة، كما صار
هو الصورة النمطية للمرء الملتزم والمنتمي عند أقرانه وعند غيرهم. وهذا تقنين للغثائية والسلبية التي تكبل
المسلمين منذ أمد، قد يمكن المرء أن يسميها تجوزًا " أسلمة الغثائية والوهن". ومأتى هذا من أن الذين يتولون
الإشراف التربوي أناس غير مؤهلين له من الناحية الفكرية والعلمية، فيصبون عنايتهم على التحميس وبناء
من يربون على قواعد تنظيمية معينة، ويهملون منه الجانب الفكري، فإن كان ضعيفًا بطبعه أو متوسطًا بقي
على حاله، وإن كان ذا استعداد عقلي بالفطرة توجه إلى كيفية تخريج أمثاله على الوجه الذي خرج عليه، حتى
تتحلل ملكته، ثم يسور عقله بالثقة المطلقة بمثالية ما هو عليه عن التوجيه وسماع النقد، ولا سيم ا إذا كان
مباشرًا، أو صدر من غير المنتمي إلى حركة من المسلمين، فيتأبى على التغيير والتكوين وهو في أمس
الحاجة إليهما. و" من سلبيات الصحوة الإسلامية أنها لا تزال تفتقد إلى كثير من التأطير العلمي الكفيل بنقله ا
من مستوى اليقظة الوجدانية إلى مستوى الإدارك الواعي لحقيقة هذا الدين، ولحقيقة الواقع وللأسلوب الأمثل
. في تغييره دون مصادمة سنن الله الشرعية والكونية والاجتماعية" 2
وهذه الغثائية والضعف التكويني جعلا من جل الحركيين التقليديين، وجل الملتزمين نتاجًا ضعيفًا، لا يملك
المبادرة، ولا يقدر على التأثير، لأنه صنع ليتأثر أكثر مما يؤثر، وصنع نمطًا من الصنع يباين ما ينبغي أن
تكون عليه الشخصية الرسالية، من قوة الإرادة والجاذبية، والمبدئية، وقوة التأثير والقدوة، والقدر ة على
الإقناع، بما يتمتع به من سعة الثقافة، وعلمية التفكير، وقوة المنطلقات، والثقة المبنية على أسس علمية.
فهو مدار مساير، يتطلب ود الناس ويحرص عليه بكل ثمن، فيناله بمسالمته ولينه، لكنه يناله ني ً لا سلبيًا؛ لأنه
يكون ودًا لشخصه لا لفكرته، كما يحب الشخص المستضعف؛ لأنه لا ضرر فيه لأحد.
ولا خير في حلم إذا لم تكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
.99/ 1 رسائل الجاحظ (رسالة المعاد والمعاش)، 1
. 2 العمل الإسلامي والاختيار الحضاري، 20
وكان ينبغي أن يكون حرصه أكثر شيء على تسويق فكرته وبثها في الناس بكل طريقة ممكنة، وبث
روح التدين الصحيح، وخلق القوة والفاعلية، وتحريك التفكير؛ لتكون القوة والإيجابية روحًا يسري في أكبر
عدد من الأمة، ولو لم يكونوا ملتزمين، أو متعاطفين مع انتمائه. فأمة إيجابية فاعلة- وإن لم تكن بالصلاح
المرجو – أنفع للمشروع الإسلامي من أخرى سلبية، وإن صلحت في نفسها.
بل كثيرًا ما يكون الملتزم مدعاة لصدود بعض المستنيرين عن الفكرة الإسلامية؛ لما يرى عليه من البساطة،
والتعلق بالمثالية التاريخية، والبعد عن الواقع، فهو ضعيف الوعي، غير قادر على الاست يعاب والتحليل،
يتحدث في المثاليات حديثًا عامًا، ولا يفقه واقعه فقهًا يمكنه من مناقشة قضاياه، بل يتغنى بالماضي والسلف
الصالح وعظمته ووجوب إتباعه، وترحيل حياتنا هذه إلى حياته، أو استحضار حياته إلى حياتن ا بجزئياته ا
. وخصائصها؛ فذاك معنى: " لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"، عنده 1
" إن تلك العقلية المنبتة عن الواقع هي المسؤولة عن الوضعية النخبوية التي آلت إليه ا كثير من
الحركات الإسلامية، فما عاد يلتف حولها غير مجموعة من المثقفين ثقافة متوسطة، تظل معزولة عن واقع
الجماهير؛ لعدم استيعابها لمشكلات تلك الجماهير. وما تنجح في استقطابه من الجماهير تعجز عن توظيفه
وتأطيره في مؤسسات المجتمع الثقافية والاجتماعية، وتحويل تلك المؤسسات إلى مواقع ضغط لصالح
الإسلام...لأن تكوينها الثقافي يعزلها عن وسطها ويحرمها من فهمه والقدرة على التعامل معه، وتطوير ه
. تدريجيًا، بأن تطرح مشكلات غير التي يحس بها الناس ويتألمون منها" 2
وكلما كان المرء أقدم في العمل وأمكن في قيادته كان أشد تأبيًا على التغير، وأوثق بما هو عليه، وأزهد فيم ا
يكتبه الغير من دراسات علمية ونقد في الصميم، حتى إن " النخبة التي من المفروض أن تكون قاطرة التغيير
والتجديد والإصلاح، وما شئت من المصطلحات، تحولت إلى عائق من عوائق النهضة المرتقبة، إذ أصبحت
مجا ً لا يعكس كثيرًا من سلبيات ومخلفات العصور السابقة، وتناقضات الواقع الحالي... فلم تعد جماهيرنا تجد
في النخبة المذكورة أسوتها وقدوتها، كما افتقدت فيها دور الريادة والبوصلة التي من المفروض أن تضطلع به
. تتولاه" 3
وهذه السلبيات المميتة هي في الحقيقة جزاء وفاق لمن ينكب سبيل العقل، وصدف عن النقد والمراجعة، "
فحاجة الوعي الماسة إلى الصور الذهنية تجعله يشكل صورًا مبسطة ومختصرة لما يرغب في التعامل معه،
وتلك الصور كثيرًا ما تكون قاصرة، أو زائفة أو مشوهة؛ مما يحولها في أحيان كثيرة من أداة تعين الوعي
إلى حجب تحول بينه وبين رؤية الأشياء على ما هي عليه، ولكن معظم الناس لا يدركون هذه الحقيقة، ويثقون
.47 - 1 انظر: عوامل الشهود الحضاري، 45
2 الحرآة الإسلامية ومسألة التغيير، 51 وما بعدها.
. 3 الحرآة الإسلامية بين الثقافي والسياسي، 4
في صورهم الذهنية على نحو شبه مطلق... وهذه الصور تسهل عمل الوعي، لكنها تجعله مختلفًا عن الواقع،
فالتغير المتسارع الذي يشهده العالم يفرض علينا أن نحور صورنا عنه، وإلا انتقلنا من حيز الإدراك الصادق
إلى حيز التعامل مع الأوهام" 1. ومن عرف هذا الواقع عرف أين تتجه الصحوة، وعرف ما ستبني، وعرف أن
من كان تكوينه الفكري كتكوين قادتها، وأصحاب المكانة فيها لا يمكن أن يحقق من المشروع الضخم إلا
أماني، لم يعد لها عدتها العلمية، وأن أكثر ما يقال من المنجزات والنجاح فيه مبالغات كبيرة، وأن الحركات
تقيس نجاحها بقابلية الشعوب لها، وهو قياس غير صحيح، فالمقبول الإسلام لا الحركات، وقبوله والانحياز
لمن يرفع راتبه دليل تمكنه من نفوس الشعوب، مهما بلغت من الانحراف، وحيل بينها وبين دينها. وأحسب أن
اللافتة التي يكتب عليها اسم الإسلام لو علقت على ذيل خنزير بري لتبعه الناس حتى تنكشف لهم حقيقته، حبًا
للإسلام واقتناعًا به لا بما يحمل اسمه، ونجاح الحركات مقياسه الصحيح النجاح في المشروع الحضاري
وإقناع الناس به، وصرفهم إليه، وفي التغيير الثقافي، الذي يحدث الإيجابية والفاعلية وينقل الناس من طور
إلى طور، أما التدين وحده فليس هو مقياس النجاح، فجماعة التبليغ حققت في هداية الناس ما لم تحقق حركة
الإسلامية.
وأحسب أنه قد آن الأوان للتحدث عن الكيفية التي يبنى بها الفكر الصحيح.
إن التفكير ملكة تترقى بالعلوم العقلية التي تعلم طرائق الاستدلال وإقامة البراهين، وبقراء ة الكتب
الفكرية ذات المنهج العلمي الجاد، والتمعن في كيفية معالجة القضايا والاستدلال عليها، وكيفية التحليل
والاستنتاج، وقد أشار ابن خلدون إلى أن الفلسفة وما كتب الفلاسفة له " ثمرة واحدة، وهي شحذ الذهن في
ترتيب الأدلة والحجج لتحصيل ملكة الجودة والصواب في البراهين. وذلك أن نظم المقاييس وتركيبه ا على
وجه الإحكام والإتقان هو كما شرطوه في صناعتهم المنطقية... فيستولي الناظر فيها بكثرة استعمال البراهين
. بشروطها على ملكة الإتقان والصواب في الحجج والاستدلالات" 2
ويمكن تشبيه التفكير بالنقد والشعر: لا يمكن أن توضع لهما قواعد ثابتة صارمة، لكن ملكتهما يمكن
اكتسابها بالتجربة والمحاكاة، وقراءة آثار النقاد والشعراء كثيرًا، حتى يجد المرء نفسه قد اكتسبت ملكة النقد
فصار صاحب رأي ناتج من خبرة، واكتسب ملكة الشعر فصار شاعرًا. وينبغي الإفادة مع ذلك مما يكتب في
مناهج البحث ونظرية المعرفة، ومما يكتب في الاقتصاد وعلم الاجتماع والتحليل السياسي؛ لأن هذه قائمة على
التحليل والنظر العميق.
ولا بد في أثناء القراءة والاطلاع من التفكير كثيرًا فيما يقرأ وعرضه على العقل ووضعه موضع
الشك، حتى تثبت صحته أو عدمها، فالشك أول درجات اليقين، كما قال الإمام الغزالي.
. 1 تجديد الوعي، 9
. 2 المقدمة، 519
وربما لا تفيد كثرة القراءة إذا كان القارئ يعفي نفسه من التفكير، وإنما يقرأ بنية التصديق، أو بنية
الرفض، بل قد يكون لهذه القراءة ضرر؛ لأنها تلغي العقل، وتميت ملكة النقد، وتجعله مثل شريط تسجل عليه
أفكار غيره، وليس له من وظيفة فيها سوى أن يستعيدها إذا وضع في مسجل، والقراءة ما لم ينشأ عنها ترقية
للعقل قليلة الفائدة؛ لأنها تجعل ذاكرة المرء تختزن ما لا يعي ولا ينفعه، كالذين قال الله عنهم: " كمثل الحمار
يحمل أسفارا" ، وكان العلماء والمفكرون قديمًا ينبزون بعض العلماء بأن علمهم أكبر من عقولهم.
ونبه الفيلسوف الألماني شوبنهور إلى خطر هذه القراءة فقال: " إن تعرض عقولنا باستمرار لتدفق
أفكار غيرنا لا بد أن يحصر أفكارنا ويكبح انطلاقها، ويؤدي في النهاية إلى شل قوة تفكيرنا... فنحن عندم ا
نقرأ لغيرنا يكون غيرنا يفكر لنا، ولا نكون حينئذ إلا معيدين لأفكار غيرنا؛ لذلك فإن الشخص يفقد تدريجي ًا
. مقدرته على التفكير إذا قضى أيامه في قراءة غيره" 1
وليس في هذا الكلام صد عن القراءة، إنما هو دعوة إلى قراءة مستبصرة، لبناء أسس التفكير، ثم
الاستقلال بعد حيازة المنهج، فتكون القراءة ناقدة، تحدد الخطأ والصواب، فستصفي الأخير لتضيفه إلى
رصيدها، وتحمي من الأول صاحبها لئلا يدخل على عقله الضيم.
وهذا هو فحوى قول الإمام علي – رضي الله عنه - : " والعارف العاقل يعرف الحق، ثم ينظر في نفس
القول، فإن كان حقًا قبله، سواء كان قائله مبط ً لا أو محقًا، بل ربما يحرص على انتزاع الحق من أقاويل أهل
. الضلال، عالمًا بأن معدن الذهب الرغام" 2
ولقد يكون المسلم – اليوم – أحوج الخلق إلى هذا العرفان والعقل الغزاليين؛ لأن جل العلوم والصنائع
هي من نتاج أهل الضلال، ومعدنها الرغام، والمسلمون في أمس الحاجة إليها لدينهم ودنياهم، وما لم يكن لهم
عقل يميزون به حقها من باطلها فاتهم خيرها، إن عدلوا عنها خوفًا من شرها، أو لحقهم شرها إن لم يحسنو ا
تمييز الخير منه.
وكان الراغب الأصفهاني – رحمه الله – عقد فص ً لا في (الذريعة) سماه: تعذر إدراك العلوم النبوية
على من لم يتهذب في العلوم العقلية. قال فيه: " المعقولات تجري مجرى الأدوية الجالبة للصحة، والشرعيات
تجري مجرى الأغذية الحافظة للصحة، وكما أن الجسم متى كان مريضًا لم ينتفع بالأغذية ولم يستفد بها، بل
يتضرر بها، كذلك من كان مريض النفس لم ينتفع بسماع القرآن الذي هو موضوع الشرعيات، بل صار ذلك
ضارًا له مضرة الغذاء للمريض ... وأيضًا فالمعقولات كالحياة التي بها الأبصار والأسماع، والقرآن كالمدرك
بالسمع والبصر، وكما أنه من المحال أن يبصر ويسمع الميت قبل أن يجعل الله فيه الروح ويجعل له السمع
. 1 قصة الفلسفة، 426
. 2 المنقذ من الضلال، 111
. والبصر، كذلك من المحال أن يدرك من لم يحصل المعقولات حقائق الشرعيات" 1
وإذا تعذر الانتفاع من القرآن إذا عطل العقل فعدم الانتفاع بغيره أولى. ولعل هذه الحقائق تفسر لن ا
الأزمة الفكرية التي يعانيها المسلمون اليوم، وعدم القدرة على فهم الوحي كما ينبغي أن يفهم في هذا العصر،
فإن التكوين العلمي والعقلي المنهجي ل  ما  عدِما ورضي العلماء وأتباعهم بالتلقي دون التعقل والوعي صارت
دراسة الوحي والتراث مقصورة على الاستحضار والتفسير كما فسرا قديمًا في واقع قديم، تفسير ًا سطحي ًا
عاطفيًا تدليليًا نظريًا مكرورًا؛ لأن العلماء صيغت عقولهم صياغة تراثية متأخرة، ولم توضع في أيديهم أدوات
التعامل الصحيح مع الوحي، من المنهج العلمي العقلي، ومن فقه المقاصد، والمعرفة الواسعة بالحيا ة
المعاصرة. وقد وضع محمد باقر الصدر يده على هذه الحقيقة، فرام أن يضع منهجًا جديدًا للتعامل مع القرآن،
كما يقتضي العصر أن يتعامل معه، وعلى نظريته عول محمد تقي الأميني قوله: " أنا لا أستطيع أن أقر أ
النص القرآني، فأستلهم منه مثل هذه المبادئ دون أن أنظر إلى التجربة البشرية التي أنتجت مثل هذه المبادئ،
ومن ثم أعود فأعرضها على القرآن الكريم؛ لأن مثل هذه العملية هي قراءة جديدة للقرآن الكريم، هي قراء ة
. تساعد على فهم القرآن الكريم بصورة أدق وأعمق" 2
ويقودنا هذا إلى قضية مهمة ذات صلة بهذه هي أننا اليوم في البناء الفكري نحتاج إلى علوم غير التي
كان يحتاج إليها الأولون، أو قل علوم جديدة فوق العلوم الأساسية التي كانوا يحتاجون إليها، هي تلك التي
تعرفنا الواقع تعريفًا دقيقًا، وتكشف لنا سنن الله المستحكمة فيه، وكيفية التعامل مع هذه السنن بما يمكننا من
استغلالها لبناء الحياة على أساس من شرع الله. وقد درج عقل الصحوة الإسلامية على حصر التخصص في
جوانب معينة من العلوم، دون علوم قد تكون أشد منها أهمية للمشروع الإسلامي، قد حصروا العناية في
العلوم الشرعية من حديث وتفسير وقراءات وفقه وأصول وعقائد، وعلوم لغوية، ثم في العلوم التطبيقية من
طب وصيدلة وكيمياء وفيزياء، إلخ. أما الأولى فهي العلوم التي بها يعرف الدين، وأما الثانية فالدافع إليه ا
ثلاثة أمور: دفع ما يوصم به الإسلاميون من معاداة للعلوم الحديثة ولكل جديد، وتسلم المناصب الكبيرة، وهذه
العلوم سلم إليها، وبناء الكوادر الإسلامية في المجالات التي تخدم الدعوة وتبني الدولة وتقدر على التأثر.
وقد حققت هذه الخطة جانبًا من مبتغاها؛ لكنها فرطت في جوانب مهمة، كان التفريط فيها خطأ فادحًا،
فقد صارت " النتيجة أن العناصر الإسلامية آل أمرها إلى أن تعمل عناصر تنفيذ، تبني السدود والمشاريع
الزراعية، وتداوي مرضى الخصوم، ونفذت العناصر القومية والشيوعية إلى مراكز القيادة السياسية والثقافية
. في مجتماتنا، حتى إن الصحف الإسلامية تعاني عجزًا كبيرًا في المحررين ورجال الإعلام" 3
1 الذريعة إلى مكارم الشريعة، 208 وما بعدها.
. 2 مناهج التجديد، 62
. 3 الحرآة الإسلامية ومسألة التغيير، 126
إن علم الحديث وعلم القراءات مهمتهما التثبت من صحة نسبة النص إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ومهمة التفسير بيان ملابسات نزول الوحي وفهم الأولين له، ومهمة علوم اللغة الإعانة على معرفة
معاني النص على ما تقتضيه أساليب العرب، ومهمة الأصول تقديم منهج للتعامل مع النص في استخراج
الأحكام؛ والفقه هو ثمرة هذا التعامل من أهل زمان بعينه في أحوال بعينها. ونحن اليوم في حاجة إلى علوم
جديدة نعرف بها واقعنا وسننه، وطرائق التأثير فيه، وهذه العلوم هي المسماة العلوم الإنسانية، كالفلسفة
بفروعها المختلفة، وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلوم السياسة والاقتصاد، وعلم الإنسان، والآداب والفنون،
وعلم الإحصاء، وعلوم المستقبل، إلخ. فهذه العلوم هي " التي تعطي المؤشر الصحيح، وترشد إلى كيفية
. التعامل مع الإنسان وإعادة تشكيل عقله" 1
وكان الدكتور حسن الترابي من أول من نبه إلى أهمية العلوم الإنسانية والطبيعية، في محاضراته
المشار إليها آنفًا، فقد قال فيها: "علم الطبيعة هو الذي يعرفك بالواقع وأدواته، ومهما حصل لك من العلم
الديني بمعالجات الشريعة، وبأدوية الشريعة فلا بد لك من تشخيص المجتمع لتعلم الداء، ثم تقدر ما هو الدواء
الشرعي المعين الذي يناسب المجتمع، وذلك يستدعي أن تدرس المجتمع دراسة اجتماعية واقتصاد ية، وأن
. تدرس البيئة الطبيعية دراسة فيزيائية وكيمائية حتى تستطيع أن تحقق الدين بأكمل ما يتيسر لك" 2
وهذه العلوم فوق هذه الأهمية كلها هي التي تصنع عقل المسلمين الذي ران عليه التخلف عن الحياة وعلومها
المهمة المؤثرة تأثيرًا كبيرًا في سير الحياة.
على أنه يجب على من رام صنع عقل فاعل متميز أن يفتح عينه على " الكسوب الثقافية المعرفية للإنسانية
عامة، وللمسلمين خاصة، فإنه سيقف من ذلك لا محالة على كنوز من الحقيقة في مجالات مختلفة، لا غنى
عنها بحال من الأحوال، في إعادة النمو للحياة الإسلامية، ذلك أن الحقيقة لا يمتلكها كلها أمة من الأمم أو
عصر من العصور، وإنما هي موزعة على الإنسانية بأقدار مختلفة، فكلما وسعت مجال النظر من الكسب
المعرفي الإنساني ظفرت منها بمقدار أكبر، ولو كانت متمثلة في المواعظ والعبر... وعلى هذا فإن الأمة
الإسلامية اليوم لا تكون قادرة على النهوض إلا إذا وجهت الفكر توجيهًا يشمل كل مظان الحقيقة من التراث
. الإنساني، طارفه وتليده، لتجمع منه مواد ضرورية، من الحقائق، لتطوير حياتها المادية على الأخص" 3
إن معرفة الحقيقة – كائنة ما كانت- تعني إدراك الأمور على ما هي عليه، ومعرفة الواقع تعني
معرفته كما هو من غير زيادة أو نقص؛ ليمكن معرفة التعامل معه تعام ً لا مثمرًا، ولا تعني مجرد التقدير أو
التمني أو المعرفة العاطفية المبنية على حب أو كراهية، " وإذا كان إدراك الحقيقة على ما هي عليه في الواقع
. 1 مراجعات في الفكر والدعوة، 85
. 2 تجديد الفكر الإسلامي، 18
3 عوامل الشهود، 154 وما بعدها.
علمًا – كما يقولون – فإن المنهج المتخذ إلى ذلك الإدراك ينبغي – بلا ريب- أن يكون هو الآخر علمًا، أي
ينبغي ألا تكون خطوات هذا المنهج في حقيقته إلا مجموعة إدراكات صادقة، من شأنها أن تكشف اللثام عن
الحقيقة المبحوث عنها؛ ذلك لأن العلم لا يتولد إلا عن علم مثله، وما كان للظن أن يصلح سبي ً لا إلى العلم
. بحال، وإلا لأمكن لمقدمتين ظنيتين أن تأتيا بنتيجة يقينية، وهو من أجلى صور المحالات" 1
وعلمية المنهج تعني تأسيسه على العقل، كما قدمنا، والبناء الفكري الذي ندعو إليه هنا هو الذي يمكننا
من ذلك؛ فهو الذي يكسبنا ملكة التفكير والتحليل والمقارنة والاستنتاج والنقد والتدبر، وتمييز الجواهر من
الأعراض، والأفعال من مقاصدها، ويوجه العقل إلى تطلب العلاقة بين الفعل وظرفه وملابساته، ليحكم
بإطلاقه أو تقييده، وخصومه أو عمومه، وكونه تعبديًا أو مصلحيًا، وما ينبني على ذلك من وجوب التمسك
بظاهره أو باطنه، وتجاوز رسائله إلى غاياته.
وهو – فوق ذلك – الذي يمكن الأمة اليوم من اللحاق بدينها، والتقدم إليه، ويصرفها عن العكوف على مظهره
دون مخبره، ووسائله دون غاياته، لتستقيم به الحياة العصرية كما أراد لها الله، وتنصرف عن أطلال الماضين
وتقديسها، ومحاكاة السير على آثار أقدامهم، دون السير على مقاصدهم.
وهو الذي يرسم للأمة الخطة التصورية للمسلك الذي ينبغي أن تسلكه لتبلغ غايتها التي تعنت طوي ً لا في السير
إليها معتسفة طرقًا لم تبلغها، ولن تبلغها ما دامت تسير في أثر العاطفيين من ذوي النيات الحسنة، والزاد
الفكري المزجى، والأنظار الشاخصة إلى المثل العليا التي عاشت زمانها كما ينبغي، ثم تبدل الزمان، وتطلب
تبدله تبد ً لا في كيفية العيش في الزمان الجديد.
وأحسب أن مصير المشروع الإسلامي مرهون بفكر الإسلاميين، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، وكل " محاولة
للنهوض والإصلاح المستقبلي تتجاوز الأزمة الفكرية، أو إدراك الخلل في عالم الأفكار وتصويبه سوف تمنى
بالخيبة والسقوط والخسران، مهما حاولت سحر أعيننا بالفجر الكاذب، وصرفتنا إلى الصورة عن الحقيقة،
وأي تفسير للتاريخ، أو قراءة للواقع، وأي استشراف للمستقبل بعيدًا عن عالم الأفكار أو المنظومة الفكرية التي
ترسم ملامحه وتحركه وتحدد قسماته هو إتيان للبيوت من سطوحها، واكتفاء بالإحساس بالمشكلة عن الإدراك
لأبعادها وأسبابها المنشئة لها، ومحاولة عديمة الجدوى لمعالجة الآثار التي سوف تتكرر، طالم ا أن أسبابه ا
. قائمة" 2
لقد بينت التجارب لكل ذي عينين من أبناء الحركة الإسلامية خل ً لا عظيمًا في نهجها الفكري، أصبح الإغفاء
عنه، والتمادي فيه مهددًا لاستمرار لحمتها، واستمرار ثقة الناس بأهليتها لتنفيذ مشروعها الذي جمعتهم، عليه
أو أطمعتهم في قيامه، وبأنه أمل الأمة وملاذها من كل ما تجرعت من ويلات التاريخ الحديث، وفجره ا
. 1 آبرى اليقينيات الكونية، 29
. 2 مراجعات في الفكر والدعوة، 85
الصادق الذي سيمحق ظلام ليلها البئيس الحالك، وغدا الانقسام الفكري واقعًا لا ينبغي التماري فيه، ولولا بقية
من إيمان وزهد وحكمة، وعدو متربص لكان لها شأن آخر. والعصمة مما يكره غير ممكنة م ا لم تكن
مراجعة يترتب عليها إصلاح المسار، ومنهج علمي يلتقي عليه الناس، " فخلق ملكة عقلية لدى كل فرد من
أفراد الجماعة هو ... الأساس الأعمق لضمان توحيدها وتنظيمها، وهو شرط التواصل الأجتماعي. وأصل
التواصل ليس مشاركة جميع الناس أو اشتراكهم في أفكار واحدة، وإنما خضوع تفكيرهم إلى طرائق ومعايير
مشتركة أساسية، مما لا ينفي أيضًا الاختلاف في الرأي، والانفراد في الأفكار، فإذا غابت هذ ه الطرائق
والمعايير المكونة للغة التواصل الأساسية زالت إمكانية التفاهم، وفقدت الجماعة مبرر وجوده ا" 1، ويزداد
الخطر مع كل أزمة شديدة تنتهي بمزيد من تردي حال الأمة، يورث إحباطًا وزعزعة ثقة بالرؤوس التي
ملكت نواصي قوم فوضوا إليها أمرهم؛ ليقودوهم إلى حيث يعزون دين الله، وينتصفون من أعدائهم، ويحيون
كرماء بدينهم، ويملكون أمرهم في كل شيء.
ولم يعد ينفع ترداد المقولات الواثقة على غير أساس، المثبتة على البؤس والوهن، من قبيل أن المستقبل لهذ ا
الدين، وأن النصر آت لا محالة، فإن الدين فكرة لا تنصر نفسها.
والنصر إنما يستجلب بالأعمال الراشدة المتعلقة، والتخطيط المبني على علم وفكر وإحصاء، وتدين صحيح،
ودراسات موضوعية. والغفلة عن هذا كله هي التي جعلت حبل مشنقة النصارى يدنو كل يوم من أعناق
المسلمين، على حين يتلهون بالآمال، ويملأون الفضاء بالكلام، وينتظرون أن ينبت النصر في الأرض، أو
يتنزل من السماء.
لقد ترسخت في وعي المسلمين منذ فجر تاريخهم ثقافة سلبية بعيدة الجذور في النفس، باعدت بين وعيهم
والمنهج العلمي، سببها تغليب جانب من الإسلام على سائر جوانبه، نهجه بعض أعلام السلف الكبار بكلفهم
بالزهد والتوكل والخوف، والاتباع والخشية من الابتداع، فأنساهم ما كلفوا به غيره، غير ملومين فيما فعلو ا.
لأنهم كلفوا ما أطاقوا وعملوا كما فهموا وعلموا، ولأنهم كانوا أبناء زمانهم ونتاج واقعهم الفكري والثقافي
والعلمي ولما كان لهؤلاء من المكانة والجلال في النفوس ما صيرهم المثل العليا للمسلمين التي تنقطع إليه ا
الأعناق – غدا فعلهم هو الإسلام كل الإسلام، والدستور الثقافي المستحكم في الشعور والعواطف، وكل مخالفة
له مخالفة للإسلام. ولا أدل على هذا من أننا نجد عقدة الشعور بالذنب من العناية بالدنيا راسخة في قلوب
المسلمين رسوخًا لا يتزحزح، حتى ولو كان أصحابها من المنفقين في السراء والضراء الذين يحملون الكل،
ويعينون الضعيف، ويساعدون على نوائب الدهر. فإن عيونهم شاخصة أبدًا إلى أن يكونوا في الدرجة العلي ا
من الفقر التي حلها بعض الزاهدين، فذلك أجل ما يوفق الله إليه عبادة الصالحين!! ودليل ثان أننا لو أحصين ا
ما كتب في الزهد لم نجد ما كتب في البطولة يعدل معشاره. ولا يعدل ما كتب في عزة النفس، وإباء الضيم،
والانتصار من البغي والبغاة، والعدل والحرية، والاستقلال معشار ما كتب في العفو والصبر، والتسامح،
. 1 اغتيال العقل، 98
والذلة على المؤمنين، إن كان التراث الإسلامي كله قد جفل –يومًا – بالكتابة عن الكرامة والعزة والحرية، مع
أن القرآن كما حض على الصبر والعفو والذلة على المؤمنين، وحض على تلك : "ولله العز ة ولرسوله
وللمؤمنين" ، " والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون - 39 -"، " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم
مؤمنين- 139 -" ، لقد حفل التراث الإسلامي بقتل النفس بتلك الأخلاق الفاضلة، ولم يبث فيها الروح بهذ ه
الأخلاق الكريمة، فكانت مهمته إخراب الدنيا لعمارة الآخرة، أكثر مما كانت إعتد ا ً لا واقتصاد ًا يصلحهم ا
ويعمرهما على سواء.
ومما يؤخذ به جلنا من زهد الزاهدين أكبر مما يؤخذ به من أخلاق البطولة والأبطال والقوة والأقوياء، الذين
سخروا بطولتهم وقوتهم في سبيل الله، فكان فضلهم على دين الله وعلى الخالق أجل من فضل زهد الزاهدين
عليهم. كما كان فضل خالد وسعد وأبي عبيدة وصلاح الدين ومحمد الفاتح ومحمود الغزنوي ببطولتهم وقوتهم
اللتين  سخرتا للتمكين للإسلام في الأرض، وهداية الخلق إلى الله أعظم نفعًا لدين الله من زهد من زهد وتبتل
من تبتل.
ودليل ثالث أن مكانة الذين عنوا بالنحو والصرف وعلم الكلام والتاريخ مث ً لا أجل في نفوس الأمة أضعاف ًا
مضاعفة من علماء الطبيعة الكبار، بل لقد رميت فئة من هؤلاء بالسحر والكفر ورقة الدين.
فنحن نعرف كثيرًا عن بعض النحاة الذين لم يكن لهم من الفضل في الحضارة الإسلامية سوى نظم بعض
قواعد اللغة أو تأليف كتاب مكرور المضمون قليل الفائدة، من قبيل الاختصار أو الشرح أو الجمع، ولا نعرف
إلا قلي ً لا عن علماء الفلك والرياضيات والكيمياء والفيزياء الكبار، الذين كانت لهم أياد جليلة في تغيير مسار
التاريخ، وما نعرفه هو معلومات مسطورة في بعض الكتب القديمة، لا يكاد أحدنا يقرؤه ا. ولقلة الوعي،
وضيق الصدر بهذه العلوم لم تستثمر جهود أصحابها وكشوفهم في تقدم الأمة ولم تعمم على طلاب العلم، ولم
يعن على تطويرها وتقدمها، واقتصر منها على الطب وعلم الأدوية لأنهما هما اللذان عرفت فائدتهما العملية،
وترك ما سواهما فمات، حتى بعثته أمة أخرى، فاستعبدت بما عرفت منه الخلق، وسخرت الكون، وفتنت
الأمم.
وهذه الظاهرة الأصيلة فيما يسمى في الفكر الإسلامي الحديث في حاجة إلى عمل مضن لاستئصاله ا من
العقول، وإحلال روح التطلع والاستكشاف والإبداع محلها، ولن يستأصل ذلك ويحل هذا إلا بالتربية على
منهج عقلي ناقد مستبصر، لا يتبع مسلمًا إلا من يجب اتباعه والتسليم له.
لقد جر علينا العقل الاتباعي جل ما نحن فيه من تخلف، إذ ما هو إلا أن يقول عالم قو ً لا حتى يقدسه من يتبعه،
ويقف عنده لا يتقدم عنه ولا يتأخر، على حين ينتقد غيرنا ويفكر ويقوم ويتجاوز ويضيف، وكل من جاء بعده
فعل بفعله ما فعل هو بفعل من سبقه، حتى تتمحص الأشياء وتخلص، ثم تصبح جاهزة للتنفيذ، فتربى عليه ا
العقول، فتتولاها فتنتفع بها في حياتها، ما دامت نافعة، أو خيرًا من سواها، فإن تبدلت تبدل بها.
وهذه التربية هي التي ستخرجنا من تاريخ إلى تاريخ. أما إن ظلت الأمة واهنة، ميتة الأوصال، حالمة واثقة
بالسراب فلا معول عليها في صنع شيء. ولا معول – بعد الله تعالى – إلا على ثورة فكرية تنفي الغثاء،
وتطيح الأفكار الميتة والأفكار القاتلة، وتكنس هذا الواقع السقيم الذي صنعته الببغاوات المتعالمة الخاطبة في
كل ما تجهل.
" والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".
المراجع
1419 ه. ؛ -1 إعمال العقل. لؤي صافي، دمشق: دار الفكر، ط 1
.1992 ؛ -2 اغتيال العقل. برهان غليون، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 6
1403 ه. ؛ -3 الاقتصاد في الاعتقاد. أبو حامد الغزالي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1
-4 إيقاظ الهمم بشرح الحكم. ابن عجيبة الحسني. ( من غير تاريخ).
-5 تجديد الفكر الإسلامي. حسن الترابي، الخرطوم: شركة مطبعة إيمان، 1980 م.
.1993؛ -6 تجديد الفكر العربي. زكي نجيب محمود، القاهرة: دار الشروق، ط 9
1421 ه. ؛ -7 تجديد الوعي. عبدالكريم بكار، الرياض: دار المسلم، ط 1
-8 الحركة الإسلامية بين الثقافي والسياسي. محمد يتيم، الدار البيضاء: الزمن 1999 م.
؛ -9 الحركة الإسلامية ومسألة التغيير. راشد الغنوشي، المركز المغاربي للبحوث والترجمة، ط 1
1421 ه.
1994 م. ؛ -10 حوار مع الفضلاء الديموقراطيين. عبدالسلام ياسين، الدار البيضاء: الأفق، ط 1
1408 ه. ؛ -11 الذريعة إلى مكارم الشريعة. الراغب الأصفهاني، تح أبو اليزيد العجمي، دار الوفاء، ط 2
-12 رسائل الجاحظ. تحقيق عبدالسلام هارون، القاهرة: مكتبة الخانجي.
-13 صيد الخاطر. ابن الجوزي، تح محمد عبدالرحمن عوض، بيروت: دار الكتاب العربي، 1405 ه.
1415 ه. ؛ -14 العمل الإسلامي والاختيار الحضاري. محمد يتيم، الكويت: دار القلم، ط 1
1405 ه. ؛ -15 في النقد الذاتي. خالص جلبي، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 3
1999 م. ؛ -16 عوامل الشهود الحضاري. عبدالحميد النجار، بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط 1
1979 م. ؛ -17 قصة الفلسفة. ول ديورانت، ترجمة فتح الله المشعشع، بيروت: دار المعارف، ط 4
1419 ه. ؛ -18 قواعد الأحكام في مصالح الأنام. عز الدين بن عبدالسلام، بيروت: مؤسسة الريان، ط 2
1421 ه. ؛ -19 كبرى اليقينيات الكونية. محمد سعيد رمضان البوطي، دمشق: دار الفكر، ط 4
-20 مراجعات في الفكر والدعوة والحركة. عمر عبيد حسنة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1421 ه.
-21 مسألة المعرفة ومنهج البحث عند الغزالي. أنور الزعبي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ودار الفكر،
1420 ه. ؛ ط 1
-22 معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام. محمد عمارة، مصر: دار نهضة مصر، 1997 م.
-23 المفردات في غريب القرآن. الراغب الأصفهاني، تح محمد سيد كيلاني، بيروت: دار المعرفة.
-24 مقدمة ابن خلدون. بيروت: دار القلم 1406 ه.
1420 ه . ؛ -25 من أجل انطلاقة حضارية شاملة. عبدالكريم بكار، بيروت، الدار الشامية، ط 1
1421 ه. ؛ -26 مناهج التجديد. تحرير عبدالجبار الرفاعي، دمشق وبيروت: دار الفكر، ط 1
-27 المنقذ من الضلال. الإمام الغزالي، تح جميل صليبا وكامل عياد، بيروت: دار الأندلس.
-28 الموسوعة العربية العالمية.
منقول من موقع الدكتور جاسم السلطان