الثلاثاء، 5 مايو 2009

جدل التحديث والإصلاح في الفكر الإسلامي


خيري عمر / 05-05-2009
غلاف الكتاب

جدل فكري كبير ثار وما يزال حول مسارات التطور السياسي والاجتماعي والثقافي في الحقبة الأخيرة للدولة العثمانية وما بعدها، منذ منتصف القرن التاسع عشر، وفي مؤلف لـ"غريغوار منصور مرشو" بعنوان: "الفصام في الفكر العربي المعاصر"، والصادر عن دار الفكر 2007، تبنى "مرشو" مدخل مناقشة الأفكار، وبيان مدى تقاربها وتباعدها عن الواقع الاجتماعي، ومدى تلبيتها لمصالحه.
ويبحث الكتاب في السياقات التاريخية والاجتماعية المؤدية إلى تأسيس صناعة الهيمنة الغربية، والكيفية التي رسخت بها أقدامها في المجتمعات الإسلامية، والسبل التي اتبعتها في عملية إحلال واستبدال واسعة للهوية الإسلامية والذاكرة الاجتماعية.
وينطلق من أن السياسات المالية والاقتصادية الأوروبية تجاه الدولة العثمانية قد أفضت إلى تطور هام في البنية الاقتصادية والاجتماعية للدولة؛ فقد نشأت عن النظام الضريبي علاقة ثلاثية بين الدولة والمواطنين والأجانب، ترتب عليها إهدار الكثير من موارد الدولة، وتكوين نخب محلية موالية للدول الأجنبية، فالشعب يدفع الضرائب التي تنقل بدورها إلى أرباح للشركات والبنوك الأجنبية، بينما تتلقى الحكومة أجرة السمسرة.
هذه الصورة التي يسوقها "مرشو" تعبر عن العمق الحقيقي لأزمة التحديث والتحديات التي يواجهها العالم الإسلامي، فمع تكريس هذا النمط من العلاقات لا يمكن التنبؤ بفرص محتملة للفكاك من أسر الهيمنة الغربية.
وفى هذا السياق يثير "مرشو" إشكالية هامة تتعلق بمستقبل التحديث في العالم الإسلامي في ظل الهيمنة الرأسمالية والشركات متعددة الجنسية على جزء كبير من قطاع الخدمات والتجارة الدولية، وبالتالي فإن القضية التي نحن بصددها تتعلق أساسا بفرص بناء أو تطوير نماذج أخرى محلية للتحديث والتنمية.
السياقات التاريخية للتحديث
شملت سياسة التحديث العديد من القطاعات كان أهمها الجيش والتعليم، غير أن تلازم هذه السياسة مع توسع دور الدولة في مصر ومصادرة أراضي المماليك والأوقاف قد أسفر عن تضاؤل الملكية الخاصة، وتدهور البنية الأساسية المجتمعية، بينما زادت هيمنة الأقليات الأجنبية.
وقد تكرس الانفصام بسبب عوامل عديدة؛ حيث ساهم الغزو الفرنسي في بدايات القرن الثامن عشر وتجربة محمد علي في تكريس أنماط ثقافية وسياسية وإدارية، سلبت الحياة والناس من هويتهم الوطنية، وعملت على تهميش الثقافة الوطنية؛ وهو ما ترتب عليه تكوين نخبة محلية موالية ومولعة بأنماط التحديث الغربية، أخذت تنافح عن نمط الحياة الغربية، وتطالب بالانغماس فيها دون تمحيص، وقد دعت إلى تبني المذاهب الفلسفية الغربية، وأنسنة العلوم والعقائد.
إن الملحوظة الجوهرية التي يرصدها الكتاب تتمثل في أن السبب الرئيسي لفشل تجربة تحديث محمد علي لم يكن ناتجا عن الإخفاق العسكري في مواجهة القوى الأوروبية، ولكنه يرجع بالأساس لانفصام عرى اللحمة والالتحام بين مشاريع التحديث والجماهير؛ فقد ظلت التجربة جسما غريبا ومعزولا عن الجماهير، وشجعت في ذات الوقت على ترسيخ الأنماط الاستهلاكية الغربية.
ومع تزايد هجرة المثقفين والعمال المهرة إلى عاصمة الدولة العثمانية نشأت ظاهرتان أثرتا على التطور الاجتماعي والاقتصادي في الدولة:
الأولى: حيث حدثت حالة من الاغتراب بين المهاجرين والمجتمع المحلي.
والظاهرة الثانية تمثلت في تدهور الإنتاج الزراعي والصناعي؛ بسبب الإفقار الاقتصادي، والتغيرات العنيفة في المجال الزراعي، واختلال الميزان التجاري بشكل أدى إلى نزوح العملات المعدنية إلى الخارج.
ونتيجة للاستثمارات الفرنسية في جبل لبنان في قطاع النسيج (1840- 1850)، تحول نمط الزراعة لخدمة المشاريع الجديدة وسياسة الإنتاج لأجل التصدير؛ مما ترتب عليه خراب صناعة النسيج المحلية، وزيادة التبعية، وتحول التجار إلى عملاء ووكلاء للتجار الأجانب؛ مما أسهم في خلق طبقة من الحلفاء لأوروبا، والمعادين في الوقت نفسه لأصحاب المشاريع المحلية؛ مما أدى في النهاية إلى تفكيك السلطة السياسية القائمة، ونشوء ولاءات محلية تتجاوز السلطة العثمانية، وقد شكل الموارنة قاعدة هذا الاختراق.
وبمضي الوقت تطورت علاقة التحالف مع الأجانب بظهور فئة اجتماعية ساعدت على تسهيل التغلغل الأوروبي من خلال دورهم كوسطاء ومترجمين، وكانت هذه الفئة محط الارتقاء الاجتماعي والاقتصادي حتى إنها صارت حليفا للدولة، وفي ظل التحولات في النظام الاقتصادي وما رافقها من أزمات اقتصادية، ومع التوسع في نشأة المدارس الحكومية ذات النسق الغربي تغيرت تركيبة القوى الاجتماعية المحلية، وباتت هذه المدارس تشكل رافدا هاما من روافد التغريب.
تحالف المثقفين والسلطة
وفى تحليله للتيارات الفكرية المؤسسة للانفصام، يذهب "مرشو" إلى أن رواد الليبرالية تحالفوا مع السلطة بدعم من الأجانب (الفرنسيين أو الإنجليز)، وهذا ما حدث مع الطهطاوي، وخير الدين التونسي، كما قامت كتاباتهم بدور كامتداد للنفوذ الثقافي الفرنسي، وقد انعكست فلسفة كتاباتهم في الصحافة، خاصة في قضايا المرأة مع نهايات القرن التاسع عشر، وتمجيد الحضارة الأوروبية، والترويج لها، بديلا عن الثقافة العربية التقليدية.
ومن السلبيات التي يراها "مرشو" في حركة الثقافة العربية في القرن التاسع عشر هو أن جهود الترجمة التي قامت بها الصحافة والجمعيات الثقافية والأفراد نظرت إلى التاريخ الإسلامي نظرة انتقائية، فعملت من ناحية على تطوير الفكر الغربي وتفكيك النظريات الإسلامية والثقافة العربية، والانتقاص منها من ناحية أخرى، وكان من نتائجها بروز جدل العقل والإيمان والثقافة الكونية، والتركيز على التبشير بالفكر الغربي، وليس إعمال النظر فيه.
ويرى المؤلف أن انعكاسات الثقافة الغربية كانت أكثر خطورة في تركز السلطة ونمو المدن، بينما تراجع التطور الصناعي، وتشوه نظام الملكية وانحاز لفئات محدودة، ونشط دعاة الحداثة في تكسير البنى الاجتماعية الطبيعية -كالأسرة- لأجل تغريبها على أساس المنهجية والفلسفة الغربية، وترويضها عن طريق آلة الدولة القومية، وربط الشريعة بالمنفعة السياسية، ومقاربتها مع المعايير والقيم الرأسمالية، وربط التطور الاجتماعي والاقتصادي بالإطار الأوروبي، واستعادة الأفكار والمؤسسات كشرط للنهضة، وتمجيد مآثر الاستعمار، والدعوة لإصلاح الحكومة على الأساليب الغربية، وذلك دون إدراك للخلاف العميق بين طبيعة المجتمع في أوروبا والعالم العربي.
لقد ركزت جهود المثقفين وتحالفهم مع الدولة على توطيد أسس الدولة العلمانية، على نحو يتعذر معه مزاحمة مشروع آخر، حتى وصلت الأمور إلى أنه من الضروري تشويه الدين باعتباره عقبة أمام التقدم، واستبداله بعلمانية عقدية تشمل المسلم، والمسيحي، واليهودي على السواء، وتعمل على مطابقته مع الأخلاق الرأسمالية.
وقد نظر المبشرون بالعلمانية -وهم من المسيحيين- إلى التخلف العربي على أنه نتيجة فساد الحكم، وأن إصلاحه يقتضي أمورا تحقق العدالة على مبادئ الثورة الفرنسية، ومن بينها فصل السلطة السياسية عن السلطة الدينية، والتي تطورت فيما بعد إلى فصل الدين عن الدولة، فالحل كما يراه أنطون سعادة -على سبيل المثال- هو في تصفية الدين سلاح الرعاع.
وفي سياق الترويج لهذه التوجهات، استخدمت الدعوة للحرية لكشف وتعرية السلطة وإضعافها، والحد من سلطة الحاكم، وقد ترتب على هذا جدل حول التعامل مع مساحات الفراغ في السلطة في ظل التخلف الاجتماعي؛ حيث إن التوسع في الحرية سوف يؤدي إلى عدم الاستقرار السياسي، ولذلك انصب الاهتمام على تقييد سلطة الحاكم، وتقليص سلطة الدولة العثمانية، وليس حرية المواطنين، وقد تم توظيف هذه السياسة منذ ذلك الحين وحتى العصر الحاضر في خدمة التغلغل الأجنبي، وإخضاع الحكام العرب لهيمنة الدول الكبرى، تحت زعم التدخل الإنساني والتحول الديمقراطي.
الفكر الإصلاحي والتغريب
لقد استهدف التغريب -كما يرى "مرشو"- هز الأرضية التي تقوم عليها الثقافة والقيم الوطنية؛ فكانت فكرة الدولة القومية مقابلة لمفهوم الأمة بشكل أثار الدعوة إلى إعادة صياغة تاريخ الإسلام وتأويله تبعا للمنهجية الغربية.
ويرجع "مرشو" فشل حركات المقاومة في مواجهة التغريب إلى انخفاض درجة تطورها السياسي، وغياب البرامج المتماسكة التي تستوعب المرحلة التاريخية التي تعايشها؛ فقد عانت هذه الحركات من الضعف الأيديولوجي والتنظيمي، بشكل أقعدها عن التعامل مع التطورات الحديثة؛ وهو الأمر الذي يثير الإشكالات حول قدرات حركات المقاومة للنفوذ الأجنبي والهيمنة في الوقت الحاضر؛ إذ المشكل لا يزال قائما، ويتماثل مع خبرات الحركات السابقة في ضعف التكيف مع المستجدات في الوضع الدولي ونظم الحكم المحلية، ومحاكاة النموذج البروتستانتي في التحديث.
ويشير المؤلف هنا إلى قضية مهمة تتمثل في أن التحديات أمام الحركات الإصلاحية الإسلامية شديدة التعقيد، خاصة في ظل تزايد الفجوة المعرفية مع الغرب، وهذا ما يقلل من قدرتها على مواجهة سياسة وحركات التغريب، وبالتالي فإن عليها إعادة ترتيب صفوفها لخوض معركة الجدل الثقافي حول القضايا الكبرى.
وفى تحليل مرشو لتعامل المفكرين المسلمين مع تيار التغريب يذهب إلى أن تبني الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا منهجا دفاعيا، لم يكشف عن القوة الكامنة في العقيدة الإسلامية، والدافعة للتقدم بقدر ما أدى إلى القبول بكثير من مقولات الاستشراقيين عن وجود علاقة بين الإسلام والتخلف، وإبعاد العقيدة عن شئون المجتمع.
ويطلق المؤلف مصطلح الحرب الوسطى على هذا المنهج، والذي يرى أن الإسلام هو نظام حضارة، ويركز في ذات الوقت على طهارة الدين، وقد تجسد هذا المنهج من خلال فكر محمد عبده ورشيد رضا، وركز كل منهما على مقدمات منهجية جاهزة قامت على محور دفاعي تبريري يقوم على الجدلية الثنائية: الوحي والعقل، دون مراعاة لإمكانيات الواقع، والذهاب إلى حد تمجيد المذهب البروتستانتي، وتجنب التعامل برؤية نقدية مع مقولات التغريب، والتي تدعي بأن الإسلام ديانة بدوية، خاصة في مقولاتهم عن الإسلام بأنه ديانة بدوية لا عقلانية، وهنا يرى "مرشو" أن هذه المقدمات سهلت تمدد العلمانية، وفصل الدين عن الدولة.
ويرى "مرشو" أن الإصلاحيين المسلمين تعاملوا مع المعرفة الغربية بتكتيكات عرضية غير مخططة؛ فعملوا على نقل المعرفة دون الالتفات إلى السياق التاريخي والاجتماعي الذي تشكلت خلاله، فلم تكن لهم إستراتيجية واضحة في التعامل مع الاستعمار فيما يكيل المستشرقون الاتهامات للإسلام، وقد قبلوا بالدولة القومية ونظمها القانونية رغم ابتعادها عن النموذج الإسلامي، كما لم يفطنوا إلى خطورة الامتيازات الأجنبية باعتبارها تحديثا نحو العلمانية، وهنا يلفت المؤلف النظر إلى أن عدم تبلور نظرية متماسكة للنهضة الإسلامية أدى لتشوه وتضاد آراء المصلحين، وسهولة الاختراق العلماني للنخب المحلية وللإصلاحيين ذاتهم، ويدلل على ذلك باجتهادات "علي عبد الرازق" في مسألة الخلافة.
تفكيك الهوية والدولة
لقد أدى الفكر القومي وتحالفه مع أوروبا والاستعمار إلى الاعتداد الشديد بما يطلق عليه المؤلف "القوميات المصغرة"، وزيادة حدة الانقسامات والصراعات، ويرى "مرشو" أن القومية العربية تبنت إستراتيجيات كان من شأنها تدمير مفهوم الجماعة المسلمة دون أن تدرس وتمحص البديل الآمن والملائم للمنطقة العربية؛ فقد عملت على نقل الدولة القومية الأوروبية بجميع أبعادها الثقافية والسياسية دون مراعاة السياق التاريخي، وهو ما ترتب عليه تدمير التراث الديني والاجتماعي، وإزاحة الدين، والإساءة إلى القيم والرموز، واستبدالها بالتراث العلماني الغربي بجناحيه الليبرالي والاشتراكي.
لقد كان الهم الأول لتحالف القوميين مع الاستعمار هو تفكيك الدولة العثمانية، وإنشاء دولة قومية عربية، ولأجل تحقيق هذا الهدف يذكر "مرشو" أنهم دعوا إلى إنشاء دول قومية يقودها الجيش، ولهذا عملوا على إنشاء جمعيات ثقافية وأحزاب تمجد القوميات المحلية: الفرعونية، والفينيقية، والكنعانية، في مقابل الإسلام الصحراوي البدائي.
غير أن المشكلة التي واجهت القوميين، كما يرصدها المؤلف، أنهم لم يضعوا تصورا للدولة الموعودة بقدر ما كان هدفهم التخلص من الدولة العثمانية، ولهذا تزايدت حاجتهم إلى الدول الأوروبية، بشكل أدى في النهاية إلى تنامي الولاءات المحلية في مواجهة الفكر القومي الوحدوي والدول في استبداد الدولة القومية بمواطنيها.
القوميون وإشكالية الدولة
لقد ظلت الفكرة المهيمنة على أدبيات القوميين العرب تقوم على أن التضامن الاجتماعي والمكونات الطبيعية للمجتمع تمثل عقبة أمام مشروعهم "التحديثي،" وهنا يذهب "مرشو" في تحليله لكتابات القوميين العرب منذ بداية القرن العشرين، إلا أن هذه الكتابات ركزت على تجسيد الانقسامات الاجتماعية والتمايزات الطائفية والإثنية، وأنهم تحالفوا مع الدولة لتدمير الذاكرة الاجتماعية، وتعزيز الوظيفة العقابية للدولة، وذلك في إطار إستراتيجية لتجاوز الحضارة الإسلامية، وتكريس العودة النفسية لفترة ما قبل الإسلام.
وفى هذا السياق، يشير المؤلف إلى الخبرتين: اللبنانية والمصرية؛ للدلالة على إستراتيجية التحالف، والتي تصب في صالح الاستعمار ومشروعاته؛ حيث تشتركان في تفكيك المجتمع إلى مكونات أولية متصارعة.
ويلحظ "مرشو" أن القوميين العرب قد تماهوا مع الليبرالية، وفعلوا ذات الشيء مع الماركسية كمخلص من التخلف، وأنهم قد وقعوا في أخطاء جمة، فلم يكن مشروعهم للخلاص عبر الأحزاب الشيوعية مستقلا عن السياسة السوفيتية، فكانت الأحزاب الشيوعية وسيلة لاستقبال وتنفيذ السياسة السوفيتية، كما تحالفت الماركسية ضد البرجوازية، بينما لم تتبلور الطبقة العاملة المحلية، ولذلك يرى "مرشو" أن الماركسيين العرب -كأسلافهم من الليبراليين- واجهوا أزمة تكيف، وهذا ما يفسر دخول النخبة الساعية للتغير في صراع مع المجتمع.
هذا الكتاب يلقي الضوء على فكرة على درجة من الأهمية، وتتمثل في كيفية صناعة البنية الممهدة للاستعمار والتغريب، وبناء التحالفات مع النخب، وعلى مدار صفحات كتابه ناقش "مرشو" هذه الفكرة، واستطاع توضيح السياسات الغربية في تكوين الأفكار القومية التجزيئية.
باحث دكتوراه في معهد الدراسات الافريقية







منقول

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق