الاثنين، 30 مارس 2009

الإسلام والفكر الإسلامي


مما لاشك فيه أن الإسلام ـ بكل ما ينبثق منه من فكر وثقافة وممارسة ـ قد سجل حضورا فاعلا وتأثيرا قويا في هذا العصر، وخاصة خلال العقود الأربعة الأخيرة ( 1967/2007 ). وهو ما فرض على جميع الأطراف السياسية والفكرية والإعلامية ، أن تخصص حيزا متزايدا للإسلام ولكل ما ينبثق عنه من أفكار ومواقف ،وما يجري باسمه من أفعال وردود أفعال .
وهكذا أصبح الإسلام والإسلاميون ، والفكر الإسلامي والتراث الإسلامي ، موضوع أبحاث ودراسات وتقارير ، لمختلف أصناف المهتمين ؛ من سياسيين وعسكريين وأمنيين وأكاديميين وإعلاميين ...حتى لقد أصبح الاهتمام بالإسلام وحركته ، ضرورةً مهنية ، بل تخصصا مهنيا لدى الكثيرين . وهكذا ـ فجأة ـ بدأنا نقرأ ونشاهد مثل هذه الصفات ، لبعض المثقفين والصحفيين والسياسيين : خبير في القضايا الإسلامية ، باحث في الحركات الإسلامية ، مستشار في الشؤون الدينية ، مستشار في التنظيمات الإسلامية ، باحث في الفكر الإسلامي ، مفكر إسلامي ، خبير في قضايا الإرهاب ... لقد ظهر جيش من " الإسلامولوجيين" ، من العرب والعجم ، ومن الشرق والغرب .
كما ظهرت مؤسسات ومراكز ومختبرات ، مخصصة لرصد الظاهرة الإسلامية وتحليل ما يصدر عنها وكشف "خفاياها وخلفياتها"...
وكل هذا يضاف إلى ما تعرفه الساحة الإسلامية نفسها ، من تعدد وتنوع في تياراتها وتوجهاتها ومدارسها الفكرية ، عدا الأفراد ، من دعاة ومفتين ومنظرين ...
هذا الواقع المشار إليه ، يلزمني ـ قبل الانطلاق في هذه الحلقات عن الإسلام والفكر الإسلامي وقضايا العصر ـ أن أتوقف قليلا للتوضيح والتذكير ببعض الأوليات والمنطلقات والمصطلحات .
الإسلام والفكر الإسلامي ؟
ـ أعني بالإسلام أولا : القرآن الكريم .
ـ وثانيا: ماصح من السنة النبوية . فكل سنة نبوية اتفق أهل الاختصاص على صحة ثبوتها ، فهي إسلام ، وهي من الإسلام .وكل ما اختلفوا في تصحيحه ، فهو في محل النظر والاجتهاد ، ولا يلزم إلا القائلين بصحته ، ومن اطمأنوا إلى تصحيحهم.
ـ وأعني بالإسلام : ما دلت عليه نصوص القرآن والسنة الصحيحة ، من المعاني والأحكام ، ومن المقاصد والقواعد ، دلالة صريحة واضحة . وفي مقدمة ذلك ما وقع عليه الإجماع ، ثم ما اتفقت علي المذاهب الإسلامية المتبَعة ، واستقر عندها على مر العصور.
وما سوى هذا مما فيه اختلاف وأخذ ورد ، فهي اجتهادات وآراء وترجيحات ، تقدر وتحترم بقدر حجتها ووجاهتها ، ولكنها تخضع للمراجعة والتمحيص ، ويؤخذ منها ويرد ، أياً كان أصحابها ، وأياً كان مقامهم وعددهم .
الفكر الإسلامي ؟
وأما الفكر الإسلامي ، فأعني به كل الاجتهادات والإنتاجات والإبداعات الفكرية ، التي تلتزم بالإسلام مصدرا ومرجعا أساسيا لها.
ـ ويكون الإسلام مصدرا ، حين يكون الاجتهاد الفكري متعلقا بالاستمداد المباشر من الإسلام ، واستنطاق نصوصه ومبادئه ، واستخراج حلوله وإجاباته ، وتركيب منظوماته ونظرياته ، بحسب ما يراه العالم المفكر.
ـ ويكون الإسلام مرجعا ، حين يجتهد الباحث والمفكر، معتمدا على تخصصه وفكره ونظره ، مستعينا بكل الأدوات والمعطيات العلمية المتاحة له . لكنه يفعل ذلك كله في ضوء الإسلام ومقاصده وقواعده وثوابته، فيقبل ما توافق معها ، وما لم يتعارض معها ، ويرد ما سوى ذلك
فالفكر الإسلامي إذاً ، هو جهد بشري وفكر بشري من جهة ، ولكنه يمتاز بكونه إسلامي الاستمداد والإطار، من جهة أخرى . فهو أيضا يؤخذ به ويعتمد عليه ، على قدر حجته وقوته وفائدته ، وعلى قدر تطابقه وتوافقه مع أدلة الشرع ، ويُرَد منه بقدر ما يكون على خلاف ذلك . وكما قال الإمام مالك رحمه الله : كل واحد يؤخذ من كلامه ويُرَد ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي جميع الأحوال ، فإن الفكر الإسلامي يمثل إثراء للثقافة الإسلامية وللحياة الإسلامية ، ويمثل مدخلا ومعبرا لا غنى عنه لكل دارس للإسلام ولكل متفقه فيه .فضلا عن كونه إثراء للفكر البشري عموما.
وعلى العموم ، فما يسمى ( العلوم الإسلامية) أو ( العلوم الشرعية ) ، من تفاسير ، وشروح للحديث النبوي ، وفقه ، وأصول فقه ، وفكر صوفي ، وفكر فلسفي ، ودراسات إسلامية تربوية أو اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية ...يدخل معظم ما فيه تحت مسمى الفكر الإسلامي . ولا نستطيع أن نجزم بشيئ منه على أنه إسلام ، أو أنه شريعة إسلامية ، إلا ما دلت عليه نصوص الشرع وأصوله ، بشكل واضح لا نزاع فيه بين جمهور العلماء.

وظيفة الدين وحقيقته ؟
لا شك أن الأديان المنزلة ـ في جوهرها ، ومن أولها لآخرها ـ إنما هي دين واحد . فحديثي عن الدين بصفة عامة ، وعن الإسلام بصفة خاصة ، هو حديث عن شيئ واحد ، و إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ  [آل عمران/19]
تحديد ( وظيفة الإسلام ) أو ( وظيفة الدين ) ، نقطة أساسية مركزية ، في كل مسعى لفهم الدين أو لاستنباط أحكامه ، أولمناقشة بعض قضاياه ، أو بعض القضايا المرتبطة به .خاصة بعد ظهور تضارب شديد ، يصل إلى حد التضاد والتنافي ، في هذه المسألة .
فهل الدين أفيون الشعوب؟ أم الدين محرر الشعوب؟ وهل الدين نور وهداية ؟ أم هو ظلام وخرافة؟ وهل الدين هوداء السياسة ومفسدها؟ أم هو دواؤها ومصلحها؟ وهل الدين معضلة أمنية ؟ أم هو أمن واطمئنان؟ وهل الدين هومُشعل الحروب ووقودها؟ أم هو مطفئها ومُسَكنها؟ وهل الدين ينشر المحبة والوئام ؟ أم ينشر الكراهية والخصام؟ وهل الدين نعمة وسعادة ؟ أم هو محنة وشقاوة؟ وهل الدين يحل مشاكل الإنسان ؟ أم ينتجها وهو جزء منها؟
والحقيقة أن كل واحدة من هذه الثنائيات المتناقضة ، يوجد من يعتقدها ويقول بها.
ولنصطلح على تصنيف هذه الأوصاف المتضادة واختصارها في وصفين جامعين ، هما : الوجه الإيجابي ، والوجه السلبي ، للدين.
وكذلك أسباب هذا الاختلاف والتضاد ، يمكن اختصارها وإرجاعها إلى سببين
السبب الأول : هو الإيمان أو عدم الإيمان بالدين . فالمؤمنون بالدين يقولون بالوجه الإيجابي ، وغيرهم يقولون بالوجه السلبي.ولذلك بلغ الوجه السلبي أسوأ درجاته عند الماركسية التي وصفت الدين بأقذع النعوت ، وأشهرها (الدين أفيون الشعوب).
السبب الثاني : هو مستند التصور للدين ووظيفته : هل هو الدين نفسه ، برسله وكتبه وتطبيقاته المرجعية النموذجية ؟ أم هو التدين الرديئ والممارسة التاريخية السيئة المسيئة؟
فمن عول على المستند الأول ، فهو لا شك واجدٌ وجوها مُشْرقة ومُشَرفة للدين والتدين ووظائفهما الإيجابية الكثيرة.ومن عول على المستند الثاني ، فهو واجدٌ وجوها كالحة مظلمة ، لتوظيف الدين وسوء استعماله ، في مختلف الأزمان والأوطان.
ولا شك أن الإنصاف يستوجب التعويل على الدين نفسه وعلى تطبيقاته الجيدة السليمة ، وعدمَ التعويل الانتقائي على الممارسات السلبية والتأويلات الظرفية ، التي سُطرت باسم الدين ، وهي في أحسن أحوالها اجتهادات تصيب وتخطئ .
فإذا اعتمدنا على الدين نفسه في تحديد وظيفته ومقاصده ، فإننا نجد الوجه الإيجابي ـ بجميع تجلياته المشار إليها قبل قليل ـ لائحا واضحا لاغبار عليه.
ـ تطالعنا أولاً سيَرُ الأنبياء ، والأدوار الفعلية التي قاموا بها في أزمانهم ، والآثار التي خلفوها بعد أزمانهم . إنهم المؤسسون للثقافات والممهدون للحضارات.وهم مصابيح الهداية والعدالة ، ورواد التربية والتزكية . وهم دعاة مكارم الأخلاق ، من محبة وتسامح وتراحم وتكافل.وهم المجاهدون ضد الجهل والظلم والفساد ...
ـ وتطالعنا النصوص الصحيحة الصريحة ، التي تحدد رسالة الدين ووظيفته ، بما لا يقبل الالتباس أو التأويل ولا يحتاج إلى شرح أو تعليق.
ـ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [طه/123]
ـ كقوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ  [الأنبياء/107]
ـ وقوله سبحانه  لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد/25]
ـ وبشيئ من التفصيل نجد ـ مثلا ـ قوله عز وجل:
 وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا
وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ
وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ
وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا  [الإسراء/23-37]
فهذه جملة من مبادئ الإسلام وتعاليمه وأولوياته ، لا يحق لأحد تجاهلها أو تجاوزها، وهو يريد تحديد رسالته وحقيقة وظيفته في هذه الحياة . بل هي المعيار والحَكَم على كل فكر إسلامي ومدى إسلاميته.
على أن هذه الحلقات التي أكتبها تحت عنوان ( الفكر الإسلامي وقضايانا المعاصرة) ، إنما هي بالدرجة الأولى تعبير عن فهم صاحبها وفقهه في الدين . فما وافق منها مبادئ الإسلام وأدلته فذاك المبتغى والمرمى، وما لم يوفق في ذلك فهو رأي يُعرض في سوق الآراء.
كما أن التعبير بـ(الفكر الإسلامي) ، لا يعني أنني أعبر عن غيري من المنتسبين لهذا الفكر، بل هي اجتهادات وآراء تخص كاتبها وعلى مسؤوليته.
وأما التعبير بـ(قضايانا المعاصرة) ، فالمراد به خاصة بعضُ القضايا التي تهم الفكر الإسلامي والعالم الإسلامي ، في عصرنا وظروفنا، وذلك مثل : الدين والدولة ـ الدين والسياسة ـ نظام الحكم في الإسلام ـ الإسلام والديموقراطية ـ العنف والإرهاب ـ تطبيق الشريعة ـ الحريات العامة ـ عقوبة الردة ـ الوحدة والتعددية ـ قضية المرأة ...
وكل هذا ـ أوغيره أو بعضه ـ بحسب ما يتيسر.
وما توفيقي إلا بالله ، علي توكلت وإليه أنيب.

أحمد الريسوني,

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق