السبت، 4 أبريل 2009

في بناء الفكر

الكاتب: مختار الغوث
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قد يكون لزامًا على الذي يعتمد الإقناع أن يحدد دلالة ألفاظه أو ً لا ليتسنى قارئه أن يعي مقاصده، ويشتد
اللزوم حين تكون الألفاظ من المشترك، وفي دلالاتها ما لا يريد، أو تكون مما ينَفر منه - عاد ة - لأسباب
ثقافية أو علمية أو دينية.
والفكر والتفكير والعقل يراد بها في هذه المقالة: المنهج العلمي المنضبط بضوابط العقل في دراسة
الأشياء، لمعرفتها على ما هي عليه، دون تأثر بعاطفة أو معهود أو موروث، دراسة تتجاوز الظواهر كم ا
يبدو للحس أو الخيال الساذج، والظن غير مبني على  مقنِع، كما تتجاوز الإلف والعادة.
وهذا ما هو معناه عند فئة من الكتاب الإسلاميين المعاصرين، كما يبدو من قول بعضهم: " ..لفظ العقل
للدلالة على عمليات التفكير المنطقي التي تستخدم العمليات الذهنية، من تحليل وتركيب واستقراء واستنتاج،
. للانتقال من التصورات وتصديقات أولية إلى تثورات وتصديقات مركبة منها" 1
"نعني بالفكر في هذا السياق المنهجية التي يستخدمها العقل في النظر بحثُا عن الحق، ولا نقصد به
المحتوى الذي يصل إليه من الرؤى والأفكار، كما يتبادر إلى أذهان الكثيرين" 2، "لا نقصد بالعقل - هن ا -
الإمكانيات التي وهبها الله للبشر، والتي يستخدمونها في التعامل مع المعرفة، وإنما أقصد مجموعة المبادئ
. والمفاهيم والمعايير التي تشكل الرؤية الكلية لدى المسلم" 3
وهذا مفهومه أيضا عند غير الإسلاميين، كما يبدو من قول زكي نجيب محمود: " الناس - مهما اختلفوا في
تعريف العقل - متفقون على أنه ليس كائنًا قائمًا بذاته. ويلتقون على أن "العقل اسم يطلق على فعل ذي نمط
ذي خصائص يمكن تحديدها وتمييزها" 4، و"هو الحركة التي أنتقل بها من شاهد إلى مشهود عليه، ومن دليل
. 1 إعمال العقل، 62
. 2 عوامل الشهود، 147
. 3 تجديد الوعي، 23
. 4 تجديد الفكر العربي، 309
. إلى مدلول عليه، من مقدمة إلى نتيجة تترتب عليها، من وسيلة إلى غاية تؤدي إليها تلك الوسيلة" 1
ويقول برهان غليون: "ليس المقصود بالعقل - إذن - كما يبدو هو شائع، ملكه التفكير المجرد، ولا
المنهج العقلاني الفلسفي أو العلمي، ولا الإيديولوجية العقلانية التي ما هي إلا نتيجة لتحويل العقل إلى قيمة
ثابته واستخدامها في السجال الفكري. وإنما هو جملة من المفاهيم الراسخة والمترابطة ... يحاول المجتمع من
. خلالها وبها ... استيعاب الواقع الموضوعي وتمثله" 2
والعلاقة القوية بين التفكير والفكر والعقل هي التي جعلت الثلاثة تستعمل كثيرًا مترادفة. فالعقل هو
-كما يقول الراغب الأصفهاني -: " القوة المتهيئة لقبول العلم" 3، وكما يقول الحارث المحاسبي : "بصير ة
ومعرفة تم ّ كن الإنسان من تمييز الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والمصلحة من المضر ة" 4، وهذ ه
. البصيرة أو القوة "غريزة يولد العبد بها، ثم يزيد فيه معنى بعد معنى بالمعرفة بالأسباب الدالة على المعقول" 5
والتفكير هو استعمال هذه الملكة لمعرفة المجهول بالاستعانة بالمعارف والعلوم التي تسمى العقل
الأول 6، أو العقل المصنوع، أو المكتسب 7، والفكرهو نتيجة التفكير.
وَتَن ُ كب العقل بمعناه هذا يعني أن تكون المعرفة تعارفًا، واتفاقًا غير مبني على أساس، وهو تعطيل لهذه
الملكة التي هي جوهر الإنسان، وتعطيلها مما ذم الله به الكافرين إذ قال فيهم: {لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم
أعين لا يبصرون بها ولهم ءاذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون}.
"ومن عدل هذا المنهج ورام التحصيل كمن ترك طريق الكسب والحراثة رجاء العثور على كنز من
. الكنوز، فإن ذلك ممكن، ولكنه بعيد جدًا" 8
وقد شاع في بعض الحركات أن يقارن العقل بالروح، على وجه يظهر بينهما تباينًا أو تناقض ًا يبَنى
عليه تقديم أحدهما على الآخر، والدعوة إلى إعطائها العناية كلها أو جلها، أو إقصائه لأن سبيله غير ص راط
. 1 السابق، 310
2 اغتيال العقل، 165 وما بعدها.
. 3 المفردات في غريب القرآن، 341
.( 4 شرف العقل ماهيته، (نقلاً عن: إعمال العقل، 88
. 5 السابق، 87
. 6 تجديد الوعي، 210
. 7 الموضع السابق، والمفردات، 321
. 8 مسألة المعرفة ومنهج البحث عند الغزالي، 117
الله.
ونريد بالروح هنا: تعلق القلب بالله تعالى، وما يستتبع من التزكية والرياضة بشرعه، أي الإحسان.
وغير خاف أن التبين هنا تباين أغيار لا أضداد، فلا تنافي بين الاثنين، بل الروح والعقل متلازمان
للإنسانية الراشدة، فالروح لترقية الأخلاق وتربيتها، والعقل لتدبير المعاش وشؤون الحياة. وتختل الإنسانية
بقدر إختلال ما بين العقل والروح، ويستقيم أمرها بقدر حسن التوفيق والتلاؤم بينهما: فطغيان العقل على
الروح يعني استبداد المادة والمصالح الدنيا بالإنسان، كما قال الله عن الكافرين: " والذين كفرو ا يتمتعون
ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى" ، " إن الذين لا يرجون لقآءنا ورضوا بالحياة الدني ا واطمأنو ا به ا
والذين هم عن ءاياتنا غافلون - 7- أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون" .
وتخلف العقل عن الروح وطغيان الروح على الإنسان يساوي عبادة الشيخ بالطفل، فيجلعه ا رياضة
ساذجة منطوية على غفلة، لا يميز صاحبها واجبًا من ممكن أو محال، ولا يدري كيف يدبر شؤون حياته على
الوجه الأكمل.
وقد انتقد الإمام الغزالي التفريق بين الاثنين وأبان عن سلبياته، كما أبان عن وحدتهما في التصور
الإسلامي، فقال. إنهما مترادفان يدلان على معنى واحد، قال: " في القلب غريزة تسمى النور الإلهي، وقد
تسمى العقل، وقد تسمى البصيرة الباطنة، وقد تسمى نور الإيمان واليقين، ولا معنى للاشتغال بالأسامي، فإن
الاصطلاحات مختلفة، ولنسم تلك الغريزة عق ً لا، بشرط ألا يفهم من لفظ العقل ما يدرك به طريق المجادلة
والمناظرة، فقد اشتهر اسم العقل بهذا، ولهذا ذمه بعض الصوفية. وهذه الغريزة ُ خلقت ليعلم بها حقائق الأمور
. كلها، فمقتضى طبعها المعرفة والعلم" 1
وأوجب أن تقيد العبادة والرياضة بحقائق العلم خوفًا من أن تحيد بصاحبها عن سبيل العقل، فيفسد عليه
عمله: " إذا لم تتقدم رياضة النفس وتهذيبها بحقائق العلوم نشبت في القلب خيالات فاسدة، تطمئن النفس إليه ا
، مدة طويلة" 2
ويقول إن التصوف الذي هو عبادة ورياضة: "أوله علم، وأوسطه عمل، وآخره موهبة، فالعلم يكشف
. عن المواد، والعمل يعين على الطلب، والموهبة تبلغ غاية الأمل" 3
و" لا يجوز أن يظهر في طور الولاية ما يقتضي العقل باستحالته، نعم يجوز أن يظهر فيها ما يقصر
. 1 مسألة المعرفة ومنهج البحث عند الغزالي، 102
. 2 السابق، 114
. 3 السابق، 242
. العقل عنه، بمعنى أنه لا يدركه بمجرد العقل" 1
هذه هي العقلانية والروحانية الإسلاميتان والعلاقة بينهما. بيد أنه بضعف من التكوين العلمي والعقلي
ظن كل شي صلة بالعقل والمنهج العلمي مخالف للإسلام، ومناد للروح والإيمان. وقد يكون لغلبة العواطف
وتأثرها بتاريخ الكلمات وارتباطها بمذاهب معينة أثر في هذه النظرة أيضًا. فقامت في الخيال الثفافي علاقة
بين العقلانية والإلحاد وتقديم العقل على الوحي، لأن من الفلاسفة طائفة ترى " أن كل المشكلات الكبرى التي
تواجه البشر يمكن أن ندركها بالعقل... [و] أن الناس يستطيعون بالعقل وحده إدراك الحقيقة مباشرة " 2، وعليه
فلا حاجة إلى الوحي الذي قد يكون هو والدين كله مجرد خرافة أو أفيون، كما يقول الشيوعيون. وفي التاريخ
. الإسلامي كان بعض المذاهب يرى تقديم العقل على الوحي، تقديم ترتيب لا تقديم تفضيل 3
وليس الإسلامي الذي يجعل أزمة المسلمين في هذا العصر أزمة فكرية، ويعنى ببناء الفكر، وتغيير
منهج التفكير  ملزمًا شيئًا من ذلك كله، لبعد منطلقه من منطلقات تلك المذاهب وذلك التاريخ.
ويلح بعض الحركيين منذ حين على التربية الإيمانية ويقدمونها تقديمًا مطلقًا على التربية الفكرية، حتى
ليفرطون في الثانية تفريطًا شديدًا، بحيث تحصر في قراءة بعض كتاب الحركة الذين تخدم كتاباتهم هذ ا
المنهج. ولما ألح ثلة من المجددين الحركيين على ضرورة التقويم والمراجعة، وبدأت كتاباتهم تسلك سبلها إلى
أبناء الحركة قوبلوا بنوع من الشك والتربص، يستخفي تحتهما الرفض والمعارضة بذرائع شتى، ليس فيه ا
شيء مقنع، سوى أن من ألِف شيئًا لا يريد أن غيره، وإزداد الرفض بعد أن أصبح للتجديد أنصاره وفرض
على الساحة الفكرية نفسه بكتاباته المتميزة في أصالتها، وواقعيتها، وعمقها، ونقدها الإيجابي الذي مس مواطن
الخلل، وصدق إيمانها وإنتمائها، ومنهجها العلمي، وثقافتها الواسعة، فكثر ترداد هذ ا السؤال من بعض
الحائرين: الأولوية في التربية للروح أو للفكر؟
وهذا السؤال والاختلاف الطويل في إجابته مرجح من مرجحات أن الأزمة فكرية أو ً لا، كما سوف نرى
– إن شاء الله -، ودليل على أن المنهج العلمي الذي سميناه آنفًا العقل غير مستمكن، فلذلك يدور المختلفون
حول الأعراض ولا يفطنون إلى الأمراض، ويكثرون الحوار العقيم، وينقضون كل يوم ما ينوا أمس.
وأحسب أن السؤال تستكن تحته – أيضًا – قضية أخرى هي أثر من آثار التكوين النفسي الثقافي
التاريخي: هي علاقة الوحي بالعقل.
ومما لا يستطاع إنكاره تأثر الفكر الحركي في العقود الأخيرة بالفكر الحنبلي المتأخر الذي يتسم
. 1 مسألة المعرفة، 114
.324/ 2 الموسوعة العربية العالمية، 16
. 3 انظر: معرآة المصطلحات بين الغرب والإسلام، 153
بحساسية مفرطة من العقل، مردها إلى قواعده الأصولية في الفقه، ومذهبه في العقيدة، ثم موقفه التاريخي من
الاعتزال، وما كان بينه وبين الحنابلة من خلاف، وعلاقة المعتزلة بالعقل.
وبقدر سلامة المرء من التأثر بهذا الفكر يكون نظره إلى القضية، لأن كثيرًا من علماء المذاهب
الأخرى- وإن خالفوا المعتزلة – كانوا يعرفون للعقل مكانته في الشرع، وليس عندهم حساسية من الاعتزال،
لأنهم بمنطق العقل فككوه، وأنهوا وجوده إلا في كتب بقيت معبرة عن تاريخ، أكثر من تعبيرها عن وجود
واقعي.
وقد تناول الإمام الغزالي موقف هذه الفئة من الحنابلة من العقل وانتقد إنتقادًا شديدًا وأبان أن مذهب
أهل السنة في العقل وسط بينهم وبين المعتزلة والفلاسفة، فقال: " وأنى يستتب الرشاد لمن يقنع بتقليد الأثر
والخبر، وينكر مناهج البحث والنظر؟ أولا يعلم أنه لا مستند للشرع إلا قول سيد البشر صلى الله عليه وسلم؟
وبرهان العقل هو الذي  عرف به صدقه فيما أخبر؟ وكيف يهتدي للصواب من اقتفى محض العقل واقتصر،
وما استضاء بنور الشرع ولا استبصر؟ فليت شعري كيف يفزع إلى العقل من حيث يعتريه العي والحصر؟
أولا يعلم أن العقل قاصر وأن مجاله ضيق منحصر؟ هيهات! قد خاب على القطع والبتات، وتعثر بأذيال
. الضلالات من لم يجمع بتأليف الشرع والعقل هذا الشتات" 1
"فإياك أن تكون من أحد الفريقين، ولكن جامعًا بين الأصلين، فإن العلوم العقلية كالأغذية والعلوم
الشرعية كالأدوية، وظن من ظن أن العلوم العقلية مناقضة للعلوم الشرعية، وأن الجمع بينهما غير ممكن،
." وهو ظن صادر عن عماية في البصيرة 2
ثم مست القضية بعد هذا خصوصيات الأشخاص النفسية والعقلية والثقافية وميولهم وما ألفوا، فراموا أن
يغلوا العقول عن تجاوز حل ألفاظ الوحي كما حلها المتقدمون، واستخراج ما اشتملت عليه من أحكام مقررة،
وفوائد قريبة، ورأوا أن هذا منهج السلف ومقتضى الاتباع، فالسلامة لزوم ما لزموا، والسكوت عم ا سكتو ا
عنه.
ولا يخفى عدم سداد هذا النهج، كما لا تخفى سلبيته التي تحرم الأمة من وحي خوطبت به كلها في كل
زمان ومكان، وتجعل أمرها في دينها ودنياها إلى الأموات يفكرون لها ولا تفكر لنفسها: " لقد خصوا الموتى
بمهمة التفكير للأحياء، حتى ولوا كان تفكيرهم هذا قد ارتبط بأحكام تخلفت شروط إعمالها، أو بعادات تغيرت،
. أو بأعراف تبدلت" 3
1 الاقتصاد في الاعتقاد، 4
2 مسألة المعرفة ، 251
. 3 النص الإسلامي، 38
وتنحصر مهمتها في ترداد ما قيل في القرون الخوالي.
ولقد نشأ هذا الفكر السلبي من عدم المنهج العلمي، فكانت القضية على هذه الصورة من البساطة، لأن
أصحابه لا يميزون المنهج العلمي الذي يجب على المسلمين اتباعه في التعامل مع الوحي وألا يختلف فيه
متقدمهم ومتأخرهم من نتائج هذا المنهج التي يسوغ الاختلاف فيها الآن، كما ساغ قبل الآن بين الصحابة وبين
كل من تلاهم.
ولهذا صار كل فهم للدين قديم حجة على الناس، وإن كان متأثرًا بمزاج صاحبه وخصوصيته الزمانية
والمكانية والنفسية.
وقد نبه الإمام الغزالي – رحمه الله – إلى خطأ تعميم بعض الفهوم، والغفلة عن خصوصيته ا عند
الصوفية والمفسرين، فقال: "كلام الصوفية أبدًا يكون قاصرًا، فإن عادة كل واحد منهم أن يخبر عن حال نفسه
. فقط، ولا يهمه حال غيره، فتختلف الأجوبة لاختلاف الأحوال" 1
وقال عن أهل التفسير: " إن من زعم لا معنى للقرآن إلا ما ترجمه ظاهر التفسير فهو مخبر عن نفسه،
. وهو مصيب في الإخبار عن نفسه، لكنه مخطئ في الحكم برد الخلق كافة إلى درجته" 2
وقارئ التراث العربي يعلم أن هذا الكلام يصدق أيضًا على غير هاتين الطائفتين من بعض المتقدمين.
" إن تاريخًا يقف متحجرًا مزينًا في مخيلتنا، يضفي على كل التراث المجيد حلة القداسة ما هو إلا حجاب بيننا
وبين نور الوحي الذي أنزله الله تعالى لأهل الأرض ليسعى على ضوئه أهل الأرض بتكليف واحد الروح
. متجدد الأسلوب" 3
وإذا كانت " الفقهيات كلها نظر من المجتهدين في إصلاح الخلق" 4 ، فيجب أن يكون لكل زمان
مجتهدوه الذين ينظرون في صلاح زمانهم. وقدر المتقدمين ومحبتهم لا يصح أن يحملا على قبول كل ما قالوا
دون تحميص ومقايسة، فالضعف والنقص والمحدودية صفات لا يبرأ منها إلا الأنبياء – عليهم السلام -.
قال ابن الجوزي: " ولقد سبرت السلف كلهم، فأردت أن أستخرج منهم من جمع بين العلم حتى صار
من المجتهدين، وبين العمل حتى صار قدوة للعابدين، فلم أر أكثر من ثلاثة: أولهم الحسن البصري، وثانيهم
سفيان الثوري، وثالثهم أحمد بن حنبل ... وإن كان في السلف سادات، إلا أن أكثرهم غلب عليه فن فنقص من
. 1 مسألة المعرفة، 55
2 السابق،
. 3 حوار مع الفضلاء الديموقراطيين، 129
. 4 حوار من الفضلاء الديموقراطيين، 154
. الآخر" 1
وقال في إنتقاده ترك التدبير على بعض الزاهدين: " وقد جاء أقوام ليس عندهم سوى الدعاوى، فقالوا:
هذا شك في الرازق، والثقة به أولى، فإياك وإياهم. وربما ورد مثل هذا عن بعض صدور الزهاد من السلف،
فلا يعول عليه، ولا يهولنك خلافهم" 2. وقال الراغب الأصفهاني عن قلة من جمع بين معرفة الدني ا ومعرفة
الآخرة: " ولا يكاد يجمع بين طريق معرفة الدنيا والآخرة معًا على التحقيق والتصديق إلا من رشحهم الله
. تعالى لتهذيب الناس في أمر معاشهم ومعادهم جميعًا ، كالأنبياء وبعض الحكماء" 3
وإذا فقه المرء هذه القضية لم يجعل كل قول للسلف سلطانًا على نفسه، لا يعدوه، وحجة في الأمر لا يحيد
عنها، وتجنب تعميم الأحكام المبنية على أقوالهم، ولم يجعلها ملزمة للمسلمين، وفعل مثل ذلك بكل عظيم
يقتدي به، فأنزله منزلته غير غال فيه، ولا مقصر به عنها.
وقلَّ من يعي هذا، وعدم وعيه أثر من آثار التكوين غير العلمي، كما أنه أثر من آثار ثقافة " المنسحب
من الحضارة" الذي يتعلق بالأشخاص من حيث هم، دون وعي أو فقه لتراثهم؛ لأن عقله صيغ على التسليم
المطلق لكل ما ورد عمن يعظهم، كما صيغ على التلقي دون تفكير.
وقد أشار عمر عبيد حسنة إلى وجود هذا عند الحركات الإسلامية: لكن المشكلة التربوية الحقيقية، أو
بعبارة أدق " الخطورة التربوية" في هذا المجال: عندما تتحول هذه الرموز وتلك النماذج إلى أوثان وأصنام
من دون الله... فبدل أن تكون ممثلة ومجسدة للمثل الأعلى تصبح هي المثل الأعلى والمقياس لكل شيء،
. يوزن بها الحق ولا توزن به" 4
وقد سمى الشيخ عبدالسلام ياسين هذا الضرب من حب السلف بالتقوى المزيفة، فقال: " لا بد أن نتحرر
من ربقة التقوى المزيفة، التي تريد أن نسكت عن شيء سكت عنه أجيال من علمائنا العظام" 5 ، والسكوت عما
سكتوا عنه، كالوقوف عند كل ما قالوا لأنهم قالوه، ودافعه هذه التقوى المزيفة، المبنية على حب وحسن نية –
إن حمدا في ذاتهما- ما ينبغي أن يحمد ما ينتجان.
وقبل أن أنتقل إلى الحديث عن دواعي الحاجة اليوم إلى الفكر أحب أمس جواب السؤال المتقدم : أي
الأمرين نحن اليوم إليه أحوج: التربية الروحية أم التربية الفكرية؟ فالإجابة عنه تتجلى الدواعي كثير ًا.
. 1 صيد الخاطر، 87
. 2 السابق، 92
. 3 الذريعة إلى مكارم الشريعة، 173
. 4 مراجعات في الفكر والدعوة والحرآة، 72
. 5 حوار مع الفضلاء الديموقراطيين، 231
وأحسب أن الإجمال في هذه القضية من آثار الخلل في التفكير، فالمسلمون، ومنهم أبناء الحركات الإسلامية
متباينون في العقول والهوايات والميول والإستعداد والأمزجة تباينهم في هيئات الأبدان، وكلهم ُ خلق لمهمة
غير التي ُ خلق لها الآخر، فالتسوية بينهم ظلم لهم وللأمة، لا ينتج إلا ضررًا، وهو – بعد- مباين لسنة من
سنن الله، أبان عنها قوله تعالى: " نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض
درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا".
فشغل الذي خلق للقيادة، والفروسية بالأوراد والنوافل عن المجال الذي خلق له قتل لموهبته، ورزء
جلل للأمة في طاقته، والاشتغال بإعداد ذوي العقول البسيطة بفنون القيادة وعلومها مضيعة للوقت، وتأهيل
للمرء لا يحسنه، وتعجيل بساعة ما يعد لتوليه: " وإذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة".
وكان شيخ السلطان محمد الفاتح حكيمًا، فقد عتب عليه السلطان إذ لم يعطه ورد الطريقة، على حين
يعطيه عوام الأتراك، فقال له: إني أدخرك لما هو أعظم من الورد، فلما فتح القسطنطينية قال له شيخه: لو
شغلتك بالطريقة وأورادها أكنت تفرغ لهذا الفتح العظيم؟
وقال الإمام الغزالي: " الحكمة تقتضي شمول الغفلة لعمارة الدنيا، بل لو أكل الناس كلهم الحلال أربعين
يومًا لخربت الدنيا، لزهدهم فيها، وبطلت الأسواق والمعايش، بل لو أكل كثير مما انتشر من العلوم، ولكن لله
تعالى فيما هو شر في الظاهر أسرار وحكم، كما أن له في الخير أسرارًا وحكمًا، ولا منتهى لحكمته، كم ا لا
. غاية لقدرته" 1
وكان النبي (ص) يعلق كل واحد من صحابته بعمل يمدحه له ويرغبه فيه، حتى كأنه خير الأعمال
وأرجاها عند الله؛ مراعاة للقدرات والاستعداد والحاجة، كما قال ابن عجيبة: " ومن تأمل الأحاديث النبوية
وجدها على هذا المنوال؛ لأن النبي (ص) سيد العارفين، وقدوة المربين؛ فكان يقر الناس على ما أقامهم الله
في حكمتهم؛ فلذلك تجد الأحاديث متعارضة، ولا تعارض في الحقيقة، فإذا نظرت في أحاديث الذكر قلت : لا
أفضل منه، وإذا نظرت في أحاديث الجهاد قلت: لا أفضل منه، وإذا نظرت في أحاديث فضل العلم قلت : لا
أفضل،... فكل حكمة رغَّب النبي (ص) فيها حتى تقول: لا أفضل منها؛ تطييبًا لخاطر أهلها؛ ليكونوا فيه ا
على بينة من ربهم، ولم يأمرهم – عليه الصلاة والسلام – بالإنتقال عنها؛ إذ مراد الله منهم هو تلك الحكمة...
وهو كذلك، إذ لا أفضل منها في حق أهلها" 2، وربما في حق الأمة أيضَا.
ومع مراعاة الفروق والمواهب يجب أن يكون بين المسلمين مشترك من الإيمان والتقوى واجتناب الكبائر،
والمحافظة على الفرائض، والأخلاق الفاضلة، من صدق، وعدل، وإيثار، ورحمة، وأمانة، وإخلاص، وتوكل
على الله، وتعلق به، إلخ.
1 مسألة المعرفة، 247 وما بعدها.
2 إيقاظ الهمم في شرح الحكم، 61 وما بعدها.
ولن يتساوى المسلمون في ذلك، وإن أخذ كل بنصيب منه، وذلك معنى قوله تعالى:" ثم أورثنا الكتاب الذين
اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله" .
تلك حقيقة شرعية، وسنة كونية، لا يصح إغفالها.
والحكم على أمر بالأولوية دون غيره يكون بإعتبار حال الفرد، أو باعتبار حال الجماعة، أو بإعتبارهما معًا،
والذي يقدم أحد الأمرين على الآخر هو الواقع، لا التقدير وحده.
لقد أفقنا – منذ عقلنا – على الدعاة وهم يرددون أن علة ضعفنا وهواننا وحالنا البيئسة ضعف إيماننا، وبعدن ا
عن الله، وأنه لا عزة لنا إلا بالعودة إلى الله، واتباع ما كان عليه أول الأمة: " لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما
صلح به أولها".
ولسنا نختلف في أننا ضعاف الإيمان، قليلو الإحسان، بعيدون عن الصورة الإسلامية التي أراد الله أن
نكون عليها: " كنتم خير أمة أخرجت للناس"، ولا مقارنة بيننا وبين سلف الأمة، ولا سيما صحابة رسول الله
"ص"، ولا عزة لنا إلا بدين الله، واتباع سبيل من أناب إلى الله، بيد أن الوقوف عند هذا الحد يبدو وقوف ًًا
عاطفيًا سطحيًا، يمس عرضًا من أعراض المرض، دون المرض نفسه، فضعف الإيمان والبعد عن الله لا بد
لهما من علة هي أحدثتهما؛ لأن الشيء لا يكون علة نفسه، وهذه العلة ينبغي أن تكون متناهية، أي غير
متسلسلة ، فلا تتوقف على غيرها.
وضعف الإيمان والبعد عن الله لم يكن أمرًا أو قاعدة يصح طردها على المسلمين جميعًا بقدر واحد،
طوال الزمن الذي سبق الاستعمار، وقبل تفاقم الأزمة وتعقدها. فقد كان بعض بلاد المسلمين – قبل أن
يستعمر – يعج بعباد الله الصالحين الزاهدين المتبتلين في الزوايا والمساجد العامرة بالمريدين الذين قطعو ا
صلتهم بما سوى الله، ومن لم يسلك طريق هؤلاء كان يملأ قلبه حبهم والإعجاب بهم ولهم صولة على قلبه
تجعلهم قدوته، وتعصمه من اتباع من يخالف نهجه ونهجهم، وإذا نصحوه انتصح، وأينما وجهوه اتجه. وكان
لبعض الطرق الصوفية، حتى بعد الاستعمار الأعمال الجليلة غير المنكورة، في الزوايا التي تجمع بين الدني ا
والآخرة جمعًا رائعًا، كالطريقة السنوسية، التي حملت – فوق ذلك- لواء الدعوة إلى الله في أرجاء أفريقي ا
السوداء، وكانت لها في هداية الخلق إلى الله الأيادي البيضاء، كما كان لها بعد وقوع الاستعمار في ليبيا شرف
حمل لواء الجهاد في سبيل الله.
وبلغ ما بنت من الزوايا بين الحجاز وغرب الصحراء الكبرى مائة وأربعين زاوية. وروى الإمام البنا
– رحمة الله عليه- في مذكرته صورًا رائعة من التربية الإحسانية التي كان يقوم به ا أصحاب الطريقة
الشاذلية الحصافية في مصر، كان هو وحركته (الإخوان المسلمون) من أجل حسناتها.
ويعرف دارسو تاريخ موريتانية وفرة الأولياء والصالحين في القرون التي سبقت الاستعمار، ووفر ة
العلماء الربانيين وانتشار مدارس العلم المستقرة والمتنقلة، وعكوف أهل هذا الإقليم على العلم الشرعي
وتفرغهم له تفرغًا منقطع النظير، أعان عليه حياة البداوة وقلة تكاليفها، وسلامة الفطرة، والبعد عن فسوق
المدن وماديتها.
ثم استعمرت موريتانية ومصر والصحراء الكبرى وأفريقيا السوداء كلما مسلمها وكافرها، كما استعمرت الهند
الهندوسية، وبورمة البوذية، والصين الكنفوشيوسية، وغيرها من الدول الوثنية، فهل كان استعمار تلك البلاد
الإسلامية أثرًا من تخلف الروح وقلة الدين، أم كان أثرًا من آثار تخلف العقل، اشتركت هي وغيرها من الدول
الكافرة التي شاكلتها فيه؟
لقد شاع أن سبب التخلف ضعف الإيمان والبعد عن الدين، حتى أصبح شبه عقيدة، وعادة يضطرب بها
لسان كل داعية وخطيب، وقلم كل كاتب، وينظر إلى من يدعو إلى مراجعة هذه العقيدة لبنائها على أساس من
العلم نظرة ريب في عقيدته، بيد أن وضوح الحق للعقل وضوح الشمس وسط النهار لا يدع مجا ً لا للنكوص،
ولا سيما بعد أن فشلت تلك العقيدة وعجزت عن نقلة الأمة من مرقد البؤس والهوان، ولقد قال سيدي أبو حامد
الغزالي نضر الله عظامه: " لا ينبغي أن تضع الحق المعقول خوفًا من مخالفة العادات المشهورة، بل
. المشهورات أكثر ما تكون مدخولة، ولكن مداخلها دقيقة لا ينتبه لها إلا الأقلون" 1
إن منشأ الأزمة فكري قبل كل شيء، وما نشكوه من ضعف الإيمان والبعد عن الله هو أيضًا من أثر
اختلال الفكر، والكفر وكل ما تفرع عنه من مخالفة للشريعة أثر من آثار إختلال التفكير وموازين العقل،
ولذلك قال الله عن الكافرين: "كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جآءنا نذير فكذبن ا
وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير ( 9) وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب
." ( السعير( 10
فعدم العقل هو سبب الكفر، وتقدم قول الله تعالى عن الكافرين: " لهم قلوب لا يفقهون بها..." .
ولما كانت التقوى ثمرة العقل قال أحد السلف الصالح: " ترى الرجل لبيبًا داهيًا فطنًا ، ولا عقل، فالعاقل من
. أطاع الله عز وجل" 2
وقال النبي (ص) لخالد بن الوليد: " قد كنت أرى لك عق ً لا رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير".
وقال لأخيه في رسالة حمله إياها إلى خالد: "أما بعد فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك
عقلك".
لقد أطلنا الدندنة حول الفكر، وآن لنا أن نلجه. لقد ُقدم في صدر هذه المقالة معنى الفكر والعقل الذي
. 1 مسألة المعرفة، 229
.( 2 الإحكام في أصول الأحكام، 7 (نقلاً عن : إعمال العقل، 70
نعني، وإذا استحضرنا ذلك التعريف أصبح عندنا من البدهيات أن نرد أزمتنا إليه أو ً لا، لأن الفكر هو وسيلة
الإدراك، ووسيلة وضع المنهج لشفاء العلل، ووسيلة متابعتها حتى تشفى، فإذا فقد تعذر الإدراك ، وإذا تعذر
الإدراك تعذر كل ما بعده، فكل شأن من شؤون الحياة متوقف صلاحه على صلاح العقل حتى قضية الالتزام
. والتعامل مع الوحي وفهمه، وليس صلاح العقل متوقفًا على شيء آخر 1
" والمتأمل في الوضع الإسلامي – اليوم – من حيث منهجية التفكير التي عليها المسلمون يدرك بحق أن
الأزمة التي تعانيها الأمة الإسلامية هي في قدر كبير منها أزمة فكرية تتمثل في عطالة الفكر الإسلامي عن
إنتاج سبل التنمية، وعطالته بالتالي عن إحداث النهضة؛ ذلك أن هذا الفكر أصابه من الإنحراف عن خصائصه
الأصلية التي تكونت بالدفع القرآني ما عطل فيه القدرة على تبين المسالك الصحيحة، سوآء في مستوى الفهم
. لإدراك الحقيقة النظرية، أو في مستوى التخطيط لرسم المشاريع العملية" 2
وهذا التعطل الفكري يبنى عليه جل ما تعيشه الأمة من إخفاق وتأخر في تنفيذ المشاريع الإسلامية التي
وعدت بها الحركات الإسلامية المعاصرة؛ لأنها أسست من أول يوم على التربية الإحسانية، وإعادة المسلمين
إلى دينهم الذي اجتالهم عنه الاستعمار ووكلاؤه، وإعادة الثقة به إلى أنفسهم، ثم ظلت فئة كبيرة منها على م ا
أُسست عليه، ولم تتطور كثيرًا، بل أصابها ما يشبه الترهل والضعف، وصار خطابها شبه خطابي عاطفي
انتظاري، يتوقع أن ينزل النصر من السماء بمجرد اكتساب مزيد من الأعضاء، والتزام الأعضاء مقتضى تلك
التربية، وحينما رسخت هذه الأفكار المرجوة في نفوس المسلمين كافة، لا أبناء الحركات فحسب، لم يتبع ذلك
تصور نظري ينقل المسلمين إلى المرحلة التي يجب أن تليه. و" حين تستنفد دعوة أو فكرة أغراضها، وتنجح
في إيصالنا إلى أهدافنا فإنه يجب أن نتخلى عنها، كما نتخلى عن الأفكار والأساليب العقيمة والمخفقة؛ لأن ك ً لا
منهما صار غير ذي فائدة" 3، و" الصحوة كانت في بواكيرها حركة وعي وتعبئة ودفاع عن النفس، وإثبات
للوجود، وتحقيق للذات، أكثر من أن تكون حركة نهضوية متكاملة، تضبط النسب، وتبصر الحاجات، وتوفر
. التخصصات المطلوبة، وتؤمن بضروريتها، وتدرك أهميتها، الأمر الذي أصبح من الضروريات اليوم" 4
وكان الدكتور حسن الترابي من أول من أدرك هذه القضية ونبه إليها، ووضع الخطط للتجاوز إلى
متطلبات المرحلة الجديدة، فقال في صدر محاضرة له في جامعة الخرطوم، عام 1977 م: "أما بعد، فلم تعد
حاجتنا الأكبر أن ندفع عن الإسلام أو نعتذر له، أو ندحض عنه شبهات المفترين؛ لقد تمكنت عقيدة الإسلام،
وتوطد مذهبه بعد أن اصطرع مع المذاهب المستوردة حينًا من الدهر. فد استقام أمره اليوم، وأص بح لزام ًا
. 1 من أجل انطلاقة حضارية، 61
. 2 عوامل الشهود الحضار، 149
. 3 تجديد الوعي، 18
. 4 مراجعات في الفكر والدعوة والحرآة، 46
. على المسلمين بيان الإسلام، بإيجاب يصبح معيارًا للاعتقاد وللسلوك" 1
بيد أن بعض الحركات الإسلامية ظلت بنجوة من الاستجابة لهذا المطلب، وأصرت على أن تستمسك
بما درج عليه سلفها من أول يوم، وأن تظل في ترداد ما كتب روادها الأولون لا تتجاوزه، بذرائع شتى، منها
توحيد فكر الحركة، وتنشئة أبنائها على منهجها وتصورها وتربيتها، ومنها مخالفتها للنهج الفكري الذي ترى
أنه يباين منهجها الرباني، فحصرت نفسها في كتابات رجال من روادها هم: سيد قطب، ومحمد قطب، وفتحي
يكن، ويوسف القرضاوي، ومحمد الغزالي، وفي العقدين الأخيرين محمد أحمد الراشد، وإن خرجت عن هؤلاء
لم تخرج إلا إلى من يعيد أفكارهم، حتى تلك التي كتبت منذ نحو خمسين عامًا في أحوال زالت، أي إنه ا:
أعجزت عقليتها الحزبية " عن الإفادة من الكفاءات الموفورة في العالم الإسلامي، خارج جماعتها، وحرمته ا
من الموارد الثقافية المتعددة، من غير إنتاجها، الأمر الذي أدى إلى عزلتها الثقافية والفكرية، وفقر مكتبته ا ،
ودفع بعض أفرادها غير المؤهلين إلى التطاول على تناول مسائل فكرية وثقافية خطيرة بدون ثقافة نضيجة
... بل لعل الأسوار الحزبية السميكة كانت لازمة في في نظر بعضهم؛ للاحتفاظ بالرصيد البشري من الأتباع
وبالإقطاعات البشرية" 2. وحرمت نفسها من نتاج عمالقة من المفكرين الإسلاميين الذين أمضوا زهرة أعمارهم
في الدعوة إلى الله ، والتمكين لدينه، وحرمت منه أبناءها، وصرفتهم إلى ما يعلم الطاعة والجندية والتضحية،
وخدمة مادة الحركة؛ ففاتها وفاتهم خير كثير، وتجربة عظيمة، وآراء سديدة، هي التي سيكون لها المستقبل،
إن أراد الله بهذه الأمة خيرًا، ورضيت أن تطفئ سرج عقول شبابية فذة، لو وجهتها التوجيه الصحيح، وبنت
عقولها كما ينبغي أن تبنى العقول لكان لها في أبناء الأمة وإنهاضها شأن أي شأن، وتذرعت إلى ما فعلت بما
تسميه التربية الإيمانية، وأن الإيمان إذا قوي تحقق المراد، فانتهت إلى ما يغيظ الصديق ويسر العدو، وعضت
بالنواجذ على ما انتهت إليه، وأصمت الآذان عن الناصح المشفق، ورضيت بأحلام اليقظة، تراها وتريها من
يطيعها!!
ولقد كان ينبغي أن يكون انتاج الإنسانية كلها مفتوحًا للاستفادة؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن، يطلبها في
كل مظنة من مظانها، فكيف إذا خرجت من وعاء إسلامي؟
"وإنما الأدب عقل غيرك تزيده في عقلك " 3، كما قال الجاحظ، ويعني بالأدب الفكر وما سميناه المنهج العقلي.
وقد ترك هذا المنهج في الصحوة الإسلامية آثارًا سلبية عظيمة الضرر شوهت عملها ، وعرقلت مشاريعها،
وجعلتها نسخة من المجتمع بسلبياته وغثائيته وشكلياته وعدم فاعليته، وبساطته وغفلته، وجعلت وعيها أسير ًا
لوعي المجتمع الميت، تتحكم فيه ثقافته وأفكاره أكثر مما يتحكم فيه الوعي الإسلامي الأصيل؛ لأن " وعي
. 1 تجديد الفكر الإسلامي، 1
. 2 مراجعات في الفكر والدعوة والحرآة، 125
.96/ 3 رسائل الجاحظ (رسالة المعاد والمعاش)، 1
الفرد يظل مسورًا إلى حد بعيد بمستوى الوعي السائد في مجتمعه ...[ لأن ] الجماعة تفرض على الوعي
قيودها وشروطها المؤدية إلى التماهي مع ثقافتها وطريقة استيعابها للتاريخ والواقع" 1. كما جعلتها تردد أبد ًا
أفكارًا وشعارات تجاوزها الزمن، تقف على أطلالها أبدًا، تحسب أنها منزل متجدد لا يتحول عنه، مع الثقة
المطلقة بكل ما تأتي، والإعراض المطلق عن كل ما يجد، وبعد بينها وبين الواقع، فقنعت بأن تتصدى
لمعضلات الحياة المستقبلية والواقعية بوعود غير محددة، وبالإحالة الغامضة على شرع الله، بأن فيه علاج ًا
لكل داء، وح ً لا لكل مشكل، ويوم يكون التمكن يقع المبتغى على أكمل وجه.
وتحت هذا رفض للأفكار التقدمية العلمية، المبنية على دراسة شرعية أصيلة وعميقة، رفض بمنطق غير
علمي ينبئ فيما ينبئ عنه بعدم استيعاب، وعدم أهلية للقيادة، وضعف في التفكير.
وعلقت المشكلات على الخارج وأزيحت عن النفس، إلا ما كان من ضعف الإيمان والبعد عن الله، أما غير
ذلك فالبلاء من الحكام ومن الاستعمار ومن المؤامرات. وهذا – مع ما فيه من عدم عمق الفكر وتنكب
الأساليب العلمية في الدراسة والتحليل – مناف لقول الله تعالى: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيرو ا م ا
بأنفسهم " ، " ذلك بأن الله لم يك مغيرًا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" ، " قل هو من عند
أنفسكم" .
فالسبب الداخلي الذي نخر الفكر الإسلامي، وهيأه لإنتاج الأفكار المميتة، وتقبل الأفكار القاتلة، وحصر عمله
في اختصار ما طول، ونظم ما اختصر، وحفظ ما نظم، وشرح ما اختصر – هو الذي جعل العالم الإسلامي
قاب ً لا للإستعمار فيما صنع زائدًا فعله على ما تصنع الريح التي تهب على غصن بليت علاقته بأصله من
الشجرة فهو يوشك أن يسقط، فعجلت بسقوطه، ولو لم تهب الشجرة فهو يوشك أن يسقط، فعجلت بسقوطه،
ولو لم تهب لسقط 2. وما الحكام إلا صورة من المجتمع، لأنه هو الذي أنتجهم وبثقافته غذوا وصبغت عقولهم،
و" كما تكونوا يول عليكم".
على أن التفكير السببي قد اختل بإختلال التفكير كله، فلم يعد ثمة ترتيب لأمر على آخر ترتيب ًا علميًا؛ لأن
الأمور تنسب إلى غير مقدماتها، ومقتضى التوكل يخالف ترتيب مسبب على سبب؛ لأن الأسباب في الحقيقة لا
تعمل بذاتها، و" الله تعالى يهب الفلاح في الأعمال دون أن تمر هذه الأعمال بطريق سننه في الكون القائمة
على السببية. ثم هم نتيجة هذا التوهم إما يقعدون عن العمل أص ً لا، أو يعملون على غير منهج الأسباب،
. وينتظرون في ذلك العطاء الإلهي المجاني، دون التزام التوكل الحقيقي" 3
وبهذا الاختلال صار شق كبير من المسلمين يفتقر إلى عقلية البحث العلمي " الذي هو تعبير عن الحس
. 1 تجديد الوعي، 8
. 2 في النقد الذاتي، 105
. 3 عوامل الشهود الحضاري، 54
. السببي، إذ هو في حقيقته بحث عن العلاقات السببية في الطبيعة والحياة" 1
وليس المرء في حاجة إلى مناقشة هذا الخلل مباينته للشرع، لأن الذي يؤمن بالله لا يرى في الوجود على
الحقيقة سوى آثاره، ولكن الله " أجرى عادته وطرد سنته بترتيب بعض مخلوقاته على بعض؛ لتعريف العباد
عند وجود الأسباب ما رتب عليها من خير فيطلبوه عند وقوعها ووجودها، وما رتب عليها من شر فيجتنبو ه
. عند قيامها وتحققها" 2
ولقد أحسن الجاحظ إذ قال: " واحذر كل الحذر أن يختدعك الشيطان عن الحزم، فيمثل لك التواني في صورة
التوكل، ويسلبك الحذر، ويورثك الهوينى بإحالتك على الأقدار؛ فإن الله إنما أمر بالتوكل عند انقطاع الحيل،
والتسليم للقضاء بعد الإعذار، بذلك أنزل كتابه، وأمضى سنته، فقال: " خذوا حذركم" ، " ولا تلقوا بأيديكم إلى
. التهلكة"، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " اعقلها وتوكل" 3
ومن آثار هذا النهج غلبة ما يشبه الدروشة والبساطة على بعض المنتمين إلى بعض الحركات، لأن أكثر م ا
ا  عتني به منهم إبان التربية كان تعليم الأخلاق والطاعة وسلامة الصدر والإنقياد دون تفكير أو تبصر، فكان
خريجو هذه التربية صالحين في أنفسهم لأنفسهم، ولكنهم غير صالحين للبناء الحضاري المرتقب؛ لأنهم لا
يملكون إلا الطيب وسلامة الصدر، ويظهر ذلك جليًا في صنعهم بما يوكل إليهم من أعمال، فإن أداءهم فيه ا
ضعيف جدًا، وقد يكون دون أداء من هو أقل منهم إلتزامًا للدين، كما قال أحد الكتاب: " كثيرًا ما ترى – اليوم
من يقصر في متطلبات عمله المهني، ويقصر كذلك في دوره في الفروض الحضارية، على حين تجده سباق ًا
في أمور التعبد أو أداء الشعائر، مما انتهى بمعظم مجتمعاتنا أن تكون عالة على الأمم الأخرى في معظم
شؤون عيشها، بل وأمور دينها؛ فنحن لا نصنع من الآلات والمعدات ما نطبع به في مصاحفنا، ولا ما نشيد به
. مآذن مساجدنا" 4
وهذا الإنتاج سوف يعرقل المشروع الإسلامي طوي ً لا، إذا قدر للحركات أن تستولي على الجانب السياسي من
الحياة؛ لأنها لا تملك البناة والكوادر المتميزة المنتجة الفاعلة، ولا القواعد الإيجابية الواعية. وإذا وكلت شيئ ًا
من أمور الدولة التي تسوسها إلى غير أبنائها راقبته، وألزمته أن يتصرف كما تريد، وأفسدته بيد من ولَّت.
وليس ينكر مسلم أهمية التربية الإحسانية؛ لكن فاعلية الإسلامي ونفعه للمشروع الإسلامي كان ينبغي ألا يكون
أقل أهمية في التربية الإحسانية؛ لأن تقوى المرء في جانب كبير منه لنفسه، وضعفه على الأمة، وقوته كله ا
. 1 السابق، 57
. 2 قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 16
.121/ 3 رسائل الجاحظ ( رسالة المعاد والمعاش)، 1
. 4 تجديد الوعي، 25
لها، كما قال عمر بن الخطاب- رضى الله عنه – لمن خيره بين استعمال رجل صالح في نفسه، ضعيف في
عمله، ورجل قوي في عمله ضعيف في دينه.
على أن الشمولية الإسلامية التي يؤمن بها كل إسلامي إيمانًا نظريًا لو  مثلت تمثي ً لا عمليًا لقلت هذ ه السلبية
كثيرًا، فصلاح الفكر صلاح لدنيا المرء وآخرته؛ لأن العقل إذا كان هو الموجه وصلح في نفسه أحسن التوجيه
في الدين كما يحسنه في الدنيا، كما قال الجاحظ أيضًا: " واعلم أن الآداب إنما هي آلات تصلح أن تستعمل في
الدين وتستعمل في الدنيا، وإنما وضعت الآداب على أصول الطبائع، وإنما أصول التدبير في الدين والدنيا
. واحدة، فما فسدت فيه المعاملة في الدين فسدت فيه المعاملة في الدنيا" 1
وزاد الأمر سلبية أن هذا النمط من التربية أصبح ثقافة جديدة في المجتمع انتقلت إليه من الصحوة، كما صار
هو الصورة النمطية للمرء الملتزم والمنتمي عند أقرانه وعند غيرهم. وهذا تقنين للغثائية والسلبية التي تكبل
المسلمين منذ أمد، قد يمكن المرء أن يسميها تجوزًا " أسلمة الغثائية والوهن". ومأتى هذا من أن الذين يتولون
الإشراف التربوي أناس غير مؤهلين له من الناحية الفكرية والعلمية، فيصبون عنايتهم على التحميس وبناء
من يربون على قواعد تنظيمية معينة، ويهملون منه الجانب الفكري، فإن كان ضعيفًا بطبعه أو متوسطًا بقي
على حاله، وإن كان ذا استعداد عقلي بالفطرة توجه إلى كيفية تخريج أمثاله على الوجه الذي خرج عليه، حتى
تتحلل ملكته، ثم يسور عقله بالثقة المطلقة بمثالية ما هو عليه عن التوجيه وسماع النقد، ولا سيم ا إذا كان
مباشرًا، أو صدر من غير المنتمي إلى حركة من المسلمين، فيتأبى على التغيير والتكوين وهو في أمس
الحاجة إليهما. و" من سلبيات الصحوة الإسلامية أنها لا تزال تفتقد إلى كثير من التأطير العلمي الكفيل بنقله ا
من مستوى اليقظة الوجدانية إلى مستوى الإدارك الواعي لحقيقة هذا الدين، ولحقيقة الواقع وللأسلوب الأمثل
. في تغييره دون مصادمة سنن الله الشرعية والكونية والاجتماعية" 2
وهذه الغثائية والضعف التكويني جعلا من جل الحركيين التقليديين، وجل الملتزمين نتاجًا ضعيفًا، لا يملك
المبادرة، ولا يقدر على التأثير، لأنه صنع ليتأثر أكثر مما يؤثر، وصنع نمطًا من الصنع يباين ما ينبغي أن
تكون عليه الشخصية الرسالية، من قوة الإرادة والجاذبية، والمبدئية، وقوة التأثير والقدوة، والقدر ة على
الإقناع، بما يتمتع به من سعة الثقافة، وعلمية التفكير، وقوة المنطلقات، والثقة المبنية على أسس علمية.
فهو مدار مساير، يتطلب ود الناس ويحرص عليه بكل ثمن، فيناله بمسالمته ولينه، لكنه يناله ني ً لا سلبيًا؛ لأنه
يكون ودًا لشخصه لا لفكرته، كما يحب الشخص المستضعف؛ لأنه لا ضرر فيه لأحد.
ولا خير في حلم إذا لم تكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
.99/ 1 رسائل الجاحظ (رسالة المعاد والمعاش)، 1
. 2 العمل الإسلامي والاختيار الحضاري، 20
وكان ينبغي أن يكون حرصه أكثر شيء على تسويق فكرته وبثها في الناس بكل طريقة ممكنة، وبث
روح التدين الصحيح، وخلق القوة والفاعلية، وتحريك التفكير؛ لتكون القوة والإيجابية روحًا يسري في أكبر
عدد من الأمة، ولو لم يكونوا ملتزمين، أو متعاطفين مع انتمائه. فأمة إيجابية فاعلة- وإن لم تكن بالصلاح
المرجو – أنفع للمشروع الإسلامي من أخرى سلبية، وإن صلحت في نفسها.
بل كثيرًا ما يكون الملتزم مدعاة لصدود بعض المستنيرين عن الفكرة الإسلامية؛ لما يرى عليه من البساطة،
والتعلق بالمثالية التاريخية، والبعد عن الواقع، فهو ضعيف الوعي، غير قادر على الاست يعاب والتحليل،
يتحدث في المثاليات حديثًا عامًا، ولا يفقه واقعه فقهًا يمكنه من مناقشة قضاياه، بل يتغنى بالماضي والسلف
الصالح وعظمته ووجوب إتباعه، وترحيل حياتنا هذه إلى حياته، أو استحضار حياته إلى حياتن ا بجزئياته ا
. وخصائصها؛ فذاك معنى: " لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"، عنده 1
" إن تلك العقلية المنبتة عن الواقع هي المسؤولة عن الوضعية النخبوية التي آلت إليه ا كثير من
الحركات الإسلامية، فما عاد يلتف حولها غير مجموعة من المثقفين ثقافة متوسطة، تظل معزولة عن واقع
الجماهير؛ لعدم استيعابها لمشكلات تلك الجماهير. وما تنجح في استقطابه من الجماهير تعجز عن توظيفه
وتأطيره في مؤسسات المجتمع الثقافية والاجتماعية، وتحويل تلك المؤسسات إلى مواقع ضغط لصالح
الإسلام...لأن تكوينها الثقافي يعزلها عن وسطها ويحرمها من فهمه والقدرة على التعامل معه، وتطوير ه
. تدريجيًا، بأن تطرح مشكلات غير التي يحس بها الناس ويتألمون منها" 2
وكلما كان المرء أقدم في العمل وأمكن في قيادته كان أشد تأبيًا على التغير، وأوثق بما هو عليه، وأزهد فيم ا
يكتبه الغير من دراسات علمية ونقد في الصميم، حتى إن " النخبة التي من المفروض أن تكون قاطرة التغيير
والتجديد والإصلاح، وما شئت من المصطلحات، تحولت إلى عائق من عوائق النهضة المرتقبة، إذ أصبحت
مجا ً لا يعكس كثيرًا من سلبيات ومخلفات العصور السابقة، وتناقضات الواقع الحالي... فلم تعد جماهيرنا تجد
في النخبة المذكورة أسوتها وقدوتها، كما افتقدت فيها دور الريادة والبوصلة التي من المفروض أن تضطلع به
. تتولاه" 3
وهذه السلبيات المميتة هي في الحقيقة جزاء وفاق لمن ينكب سبيل العقل، وصدف عن النقد والمراجعة، "
فحاجة الوعي الماسة إلى الصور الذهنية تجعله يشكل صورًا مبسطة ومختصرة لما يرغب في التعامل معه،
وتلك الصور كثيرًا ما تكون قاصرة، أو زائفة أو مشوهة؛ مما يحولها في أحيان كثيرة من أداة تعين الوعي
إلى حجب تحول بينه وبين رؤية الأشياء على ما هي عليه، ولكن معظم الناس لا يدركون هذه الحقيقة، ويثقون
.47 - 1 انظر: عوامل الشهود الحضاري، 45
2 الحرآة الإسلامية ومسألة التغيير، 51 وما بعدها.
. 3 الحرآة الإسلامية بين الثقافي والسياسي، 4
في صورهم الذهنية على نحو شبه مطلق... وهذه الصور تسهل عمل الوعي، لكنها تجعله مختلفًا عن الواقع،
فالتغير المتسارع الذي يشهده العالم يفرض علينا أن نحور صورنا عنه، وإلا انتقلنا من حيز الإدراك الصادق
إلى حيز التعامل مع الأوهام" 1. ومن عرف هذا الواقع عرف أين تتجه الصحوة، وعرف ما ستبني، وعرف أن
من كان تكوينه الفكري كتكوين قادتها، وأصحاب المكانة فيها لا يمكن أن يحقق من المشروع الضخم إلا
أماني، لم يعد لها عدتها العلمية، وأن أكثر ما يقال من المنجزات والنجاح فيه مبالغات كبيرة، وأن الحركات
تقيس نجاحها بقابلية الشعوب لها، وهو قياس غير صحيح، فالمقبول الإسلام لا الحركات، وقبوله والانحياز
لمن يرفع راتبه دليل تمكنه من نفوس الشعوب، مهما بلغت من الانحراف، وحيل بينها وبين دينها. وأحسب أن
اللافتة التي يكتب عليها اسم الإسلام لو علقت على ذيل خنزير بري لتبعه الناس حتى تنكشف لهم حقيقته، حبًا
للإسلام واقتناعًا به لا بما يحمل اسمه، ونجاح الحركات مقياسه الصحيح النجاح في المشروع الحضاري
وإقناع الناس به، وصرفهم إليه، وفي التغيير الثقافي، الذي يحدث الإيجابية والفاعلية وينقل الناس من طور
إلى طور، أما التدين وحده فليس هو مقياس النجاح، فجماعة التبليغ حققت في هداية الناس ما لم تحقق حركة
الإسلامية.
وأحسب أنه قد آن الأوان للتحدث عن الكيفية التي يبنى بها الفكر الصحيح.
إن التفكير ملكة تترقى بالعلوم العقلية التي تعلم طرائق الاستدلال وإقامة البراهين، وبقراء ة الكتب
الفكرية ذات المنهج العلمي الجاد، والتمعن في كيفية معالجة القضايا والاستدلال عليها، وكيفية التحليل
والاستنتاج، وقد أشار ابن خلدون إلى أن الفلسفة وما كتب الفلاسفة له " ثمرة واحدة، وهي شحذ الذهن في
ترتيب الأدلة والحجج لتحصيل ملكة الجودة والصواب في البراهين. وذلك أن نظم المقاييس وتركيبه ا على
وجه الإحكام والإتقان هو كما شرطوه في صناعتهم المنطقية... فيستولي الناظر فيها بكثرة استعمال البراهين
. بشروطها على ملكة الإتقان والصواب في الحجج والاستدلالات" 2
ويمكن تشبيه التفكير بالنقد والشعر: لا يمكن أن توضع لهما قواعد ثابتة صارمة، لكن ملكتهما يمكن
اكتسابها بالتجربة والمحاكاة، وقراءة آثار النقاد والشعراء كثيرًا، حتى يجد المرء نفسه قد اكتسبت ملكة النقد
فصار صاحب رأي ناتج من خبرة، واكتسب ملكة الشعر فصار شاعرًا. وينبغي الإفادة مع ذلك مما يكتب في
مناهج البحث ونظرية المعرفة، ومما يكتب في الاقتصاد وعلم الاجتماع والتحليل السياسي؛ لأن هذه قائمة على
التحليل والنظر العميق.
ولا بد في أثناء القراءة والاطلاع من التفكير كثيرًا فيما يقرأ وعرضه على العقل ووضعه موضع
الشك، حتى تثبت صحته أو عدمها، فالشك أول درجات اليقين، كما قال الإمام الغزالي.
. 1 تجديد الوعي، 9
. 2 المقدمة، 519
وربما لا تفيد كثرة القراءة إذا كان القارئ يعفي نفسه من التفكير، وإنما يقرأ بنية التصديق، أو بنية
الرفض، بل قد يكون لهذه القراءة ضرر؛ لأنها تلغي العقل، وتميت ملكة النقد، وتجعله مثل شريط تسجل عليه
أفكار غيره، وليس له من وظيفة فيها سوى أن يستعيدها إذا وضع في مسجل، والقراءة ما لم ينشأ عنها ترقية
للعقل قليلة الفائدة؛ لأنها تجعل ذاكرة المرء تختزن ما لا يعي ولا ينفعه، كالذين قال الله عنهم: " كمثل الحمار
يحمل أسفارا" ، وكان العلماء والمفكرون قديمًا ينبزون بعض العلماء بأن علمهم أكبر من عقولهم.
ونبه الفيلسوف الألماني شوبنهور إلى خطر هذه القراءة فقال: " إن تعرض عقولنا باستمرار لتدفق
أفكار غيرنا لا بد أن يحصر أفكارنا ويكبح انطلاقها، ويؤدي في النهاية إلى شل قوة تفكيرنا... فنحن عندم ا
نقرأ لغيرنا يكون غيرنا يفكر لنا، ولا نكون حينئذ إلا معيدين لأفكار غيرنا؛ لذلك فإن الشخص يفقد تدريجي ًا
. مقدرته على التفكير إذا قضى أيامه في قراءة غيره" 1
وليس في هذا الكلام صد عن القراءة، إنما هو دعوة إلى قراءة مستبصرة، لبناء أسس التفكير، ثم
الاستقلال بعد حيازة المنهج، فتكون القراءة ناقدة، تحدد الخطأ والصواب، فستصفي الأخير لتضيفه إلى
رصيدها، وتحمي من الأول صاحبها لئلا يدخل على عقله الضيم.
وهذا هو فحوى قول الإمام علي – رضي الله عنه - : " والعارف العاقل يعرف الحق، ثم ينظر في نفس
القول، فإن كان حقًا قبله، سواء كان قائله مبط ً لا أو محقًا، بل ربما يحرص على انتزاع الحق من أقاويل أهل
. الضلال، عالمًا بأن معدن الذهب الرغام" 2
ولقد يكون المسلم – اليوم – أحوج الخلق إلى هذا العرفان والعقل الغزاليين؛ لأن جل العلوم والصنائع
هي من نتاج أهل الضلال، ومعدنها الرغام، والمسلمون في أمس الحاجة إليها لدينهم ودنياهم، وما لم يكن لهم
عقل يميزون به حقها من باطلها فاتهم خيرها، إن عدلوا عنها خوفًا من شرها، أو لحقهم شرها إن لم يحسنو ا
تمييز الخير منه.
وكان الراغب الأصفهاني – رحمه الله – عقد فص ً لا في (الذريعة) سماه: تعذر إدراك العلوم النبوية
على من لم يتهذب في العلوم العقلية. قال فيه: " المعقولات تجري مجرى الأدوية الجالبة للصحة، والشرعيات
تجري مجرى الأغذية الحافظة للصحة، وكما أن الجسم متى كان مريضًا لم ينتفع بالأغذية ولم يستفد بها، بل
يتضرر بها، كذلك من كان مريض النفس لم ينتفع بسماع القرآن الذي هو موضوع الشرعيات، بل صار ذلك
ضارًا له مضرة الغذاء للمريض ... وأيضًا فالمعقولات كالحياة التي بها الأبصار والأسماع، والقرآن كالمدرك
بالسمع والبصر، وكما أنه من المحال أن يبصر ويسمع الميت قبل أن يجعل الله فيه الروح ويجعل له السمع
. 1 قصة الفلسفة، 426
. 2 المنقذ من الضلال، 111
. والبصر، كذلك من المحال أن يدرك من لم يحصل المعقولات حقائق الشرعيات" 1
وإذا تعذر الانتفاع من القرآن إذا عطل العقل فعدم الانتفاع بغيره أولى. ولعل هذه الحقائق تفسر لن ا
الأزمة الفكرية التي يعانيها المسلمون اليوم، وعدم القدرة على فهم الوحي كما ينبغي أن يفهم في هذا العصر،
فإن التكوين العلمي والعقلي المنهجي ل  ما  عدِما ورضي العلماء وأتباعهم بالتلقي دون التعقل والوعي صارت
دراسة الوحي والتراث مقصورة على الاستحضار والتفسير كما فسرا قديمًا في واقع قديم، تفسير ًا سطحي ًا
عاطفيًا تدليليًا نظريًا مكرورًا؛ لأن العلماء صيغت عقولهم صياغة تراثية متأخرة، ولم توضع في أيديهم أدوات
التعامل الصحيح مع الوحي، من المنهج العلمي العقلي، ومن فقه المقاصد، والمعرفة الواسعة بالحيا ة
المعاصرة. وقد وضع محمد باقر الصدر يده على هذه الحقيقة، فرام أن يضع منهجًا جديدًا للتعامل مع القرآن،
كما يقتضي العصر أن يتعامل معه، وعلى نظريته عول محمد تقي الأميني قوله: " أنا لا أستطيع أن أقر أ
النص القرآني، فأستلهم منه مثل هذه المبادئ دون أن أنظر إلى التجربة البشرية التي أنتجت مثل هذه المبادئ،
ومن ثم أعود فأعرضها على القرآن الكريم؛ لأن مثل هذه العملية هي قراءة جديدة للقرآن الكريم، هي قراء ة
. تساعد على فهم القرآن الكريم بصورة أدق وأعمق" 2
ويقودنا هذا إلى قضية مهمة ذات صلة بهذه هي أننا اليوم في البناء الفكري نحتاج إلى علوم غير التي
كان يحتاج إليها الأولون، أو قل علوم جديدة فوق العلوم الأساسية التي كانوا يحتاجون إليها، هي تلك التي
تعرفنا الواقع تعريفًا دقيقًا، وتكشف لنا سنن الله المستحكمة فيه، وكيفية التعامل مع هذه السنن بما يمكننا من
استغلالها لبناء الحياة على أساس من شرع الله. وقد درج عقل الصحوة الإسلامية على حصر التخصص في
جوانب معينة من العلوم، دون علوم قد تكون أشد منها أهمية للمشروع الإسلامي، قد حصروا العناية في
العلوم الشرعية من حديث وتفسير وقراءات وفقه وأصول وعقائد، وعلوم لغوية، ثم في العلوم التطبيقية من
طب وصيدلة وكيمياء وفيزياء، إلخ. أما الأولى فهي العلوم التي بها يعرف الدين، وأما الثانية فالدافع إليه ا
ثلاثة أمور: دفع ما يوصم به الإسلاميون من معاداة للعلوم الحديثة ولكل جديد، وتسلم المناصب الكبيرة، وهذه
العلوم سلم إليها، وبناء الكوادر الإسلامية في المجالات التي تخدم الدعوة وتبني الدولة وتقدر على التأثر.
وقد حققت هذه الخطة جانبًا من مبتغاها؛ لكنها فرطت في جوانب مهمة، كان التفريط فيها خطأ فادحًا،
فقد صارت " النتيجة أن العناصر الإسلامية آل أمرها إلى أن تعمل عناصر تنفيذ، تبني السدود والمشاريع
الزراعية، وتداوي مرضى الخصوم، ونفذت العناصر القومية والشيوعية إلى مراكز القيادة السياسية والثقافية
. في مجتماتنا، حتى إن الصحف الإسلامية تعاني عجزًا كبيرًا في المحررين ورجال الإعلام" 3
1 الذريعة إلى مكارم الشريعة، 208 وما بعدها.
. 2 مناهج التجديد، 62
. 3 الحرآة الإسلامية ومسألة التغيير، 126
إن علم الحديث وعلم القراءات مهمتهما التثبت من صحة نسبة النص إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ومهمة التفسير بيان ملابسات نزول الوحي وفهم الأولين له، ومهمة علوم اللغة الإعانة على معرفة
معاني النص على ما تقتضيه أساليب العرب، ومهمة الأصول تقديم منهج للتعامل مع النص في استخراج
الأحكام؛ والفقه هو ثمرة هذا التعامل من أهل زمان بعينه في أحوال بعينها. ونحن اليوم في حاجة إلى علوم
جديدة نعرف بها واقعنا وسننه، وطرائق التأثير فيه، وهذه العلوم هي المسماة العلوم الإنسانية، كالفلسفة
بفروعها المختلفة، وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلوم السياسة والاقتصاد، وعلم الإنسان، والآداب والفنون،
وعلم الإحصاء، وعلوم المستقبل، إلخ. فهذه العلوم هي " التي تعطي المؤشر الصحيح، وترشد إلى كيفية
. التعامل مع الإنسان وإعادة تشكيل عقله" 1
وكان الدكتور حسن الترابي من أول من نبه إلى أهمية العلوم الإنسانية والطبيعية، في محاضراته
المشار إليها آنفًا، فقد قال فيها: "علم الطبيعة هو الذي يعرفك بالواقع وأدواته، ومهما حصل لك من العلم
الديني بمعالجات الشريعة، وبأدوية الشريعة فلا بد لك من تشخيص المجتمع لتعلم الداء، ثم تقدر ما هو الدواء
الشرعي المعين الذي يناسب المجتمع، وذلك يستدعي أن تدرس المجتمع دراسة اجتماعية واقتصاد ية، وأن
. تدرس البيئة الطبيعية دراسة فيزيائية وكيمائية حتى تستطيع أن تحقق الدين بأكمل ما يتيسر لك" 2
وهذه العلوم فوق هذه الأهمية كلها هي التي تصنع عقل المسلمين الذي ران عليه التخلف عن الحياة وعلومها
المهمة المؤثرة تأثيرًا كبيرًا في سير الحياة.
على أنه يجب على من رام صنع عقل فاعل متميز أن يفتح عينه على " الكسوب الثقافية المعرفية للإنسانية
عامة، وللمسلمين خاصة، فإنه سيقف من ذلك لا محالة على كنوز من الحقيقة في مجالات مختلفة، لا غنى
عنها بحال من الأحوال، في إعادة النمو للحياة الإسلامية، ذلك أن الحقيقة لا يمتلكها كلها أمة من الأمم أو
عصر من العصور، وإنما هي موزعة على الإنسانية بأقدار مختلفة، فكلما وسعت مجال النظر من الكسب
المعرفي الإنساني ظفرت منها بمقدار أكبر، ولو كانت متمثلة في المواعظ والعبر... وعلى هذا فإن الأمة
الإسلامية اليوم لا تكون قادرة على النهوض إلا إذا وجهت الفكر توجيهًا يشمل كل مظان الحقيقة من التراث
. الإنساني، طارفه وتليده، لتجمع منه مواد ضرورية، من الحقائق، لتطوير حياتها المادية على الأخص" 3
إن معرفة الحقيقة – كائنة ما كانت- تعني إدراك الأمور على ما هي عليه، ومعرفة الواقع تعني
معرفته كما هو من غير زيادة أو نقص؛ ليمكن معرفة التعامل معه تعام ً لا مثمرًا، ولا تعني مجرد التقدير أو
التمني أو المعرفة العاطفية المبنية على حب أو كراهية، " وإذا كان إدراك الحقيقة على ما هي عليه في الواقع
. 1 مراجعات في الفكر والدعوة، 85
. 2 تجديد الفكر الإسلامي، 18
3 عوامل الشهود، 154 وما بعدها.
علمًا – كما يقولون – فإن المنهج المتخذ إلى ذلك الإدراك ينبغي – بلا ريب- أن يكون هو الآخر علمًا، أي
ينبغي ألا تكون خطوات هذا المنهج في حقيقته إلا مجموعة إدراكات صادقة، من شأنها أن تكشف اللثام عن
الحقيقة المبحوث عنها؛ ذلك لأن العلم لا يتولد إلا عن علم مثله، وما كان للظن أن يصلح سبي ً لا إلى العلم
. بحال، وإلا لأمكن لمقدمتين ظنيتين أن تأتيا بنتيجة يقينية، وهو من أجلى صور المحالات" 1
وعلمية المنهج تعني تأسيسه على العقل، كما قدمنا، والبناء الفكري الذي ندعو إليه هنا هو الذي يمكننا
من ذلك؛ فهو الذي يكسبنا ملكة التفكير والتحليل والمقارنة والاستنتاج والنقد والتدبر، وتمييز الجواهر من
الأعراض، والأفعال من مقاصدها، ويوجه العقل إلى تطلب العلاقة بين الفعل وظرفه وملابساته، ليحكم
بإطلاقه أو تقييده، وخصومه أو عمومه، وكونه تعبديًا أو مصلحيًا، وما ينبني على ذلك من وجوب التمسك
بظاهره أو باطنه، وتجاوز رسائله إلى غاياته.
وهو – فوق ذلك – الذي يمكن الأمة اليوم من اللحاق بدينها، والتقدم إليه، ويصرفها عن العكوف على مظهره
دون مخبره، ووسائله دون غاياته، لتستقيم به الحياة العصرية كما أراد لها الله، وتنصرف عن أطلال الماضين
وتقديسها، ومحاكاة السير على آثار أقدامهم، دون السير على مقاصدهم.
وهو الذي يرسم للأمة الخطة التصورية للمسلك الذي ينبغي أن تسلكه لتبلغ غايتها التي تعنت طوي ً لا في السير
إليها معتسفة طرقًا لم تبلغها، ولن تبلغها ما دامت تسير في أثر العاطفيين من ذوي النيات الحسنة، والزاد
الفكري المزجى، والأنظار الشاخصة إلى المثل العليا التي عاشت زمانها كما ينبغي، ثم تبدل الزمان، وتطلب
تبدله تبد ً لا في كيفية العيش في الزمان الجديد.
وأحسب أن مصير المشروع الإسلامي مرهون بفكر الإسلاميين، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، وكل " محاولة
للنهوض والإصلاح المستقبلي تتجاوز الأزمة الفكرية، أو إدراك الخلل في عالم الأفكار وتصويبه سوف تمنى
بالخيبة والسقوط والخسران، مهما حاولت سحر أعيننا بالفجر الكاذب، وصرفتنا إلى الصورة عن الحقيقة،
وأي تفسير للتاريخ، أو قراءة للواقع، وأي استشراف للمستقبل بعيدًا عن عالم الأفكار أو المنظومة الفكرية التي
ترسم ملامحه وتحركه وتحدد قسماته هو إتيان للبيوت من سطوحها، واكتفاء بالإحساس بالمشكلة عن الإدراك
لأبعادها وأسبابها المنشئة لها، ومحاولة عديمة الجدوى لمعالجة الآثار التي سوف تتكرر، طالم ا أن أسبابه ا
. قائمة" 2
لقد بينت التجارب لكل ذي عينين من أبناء الحركة الإسلامية خل ً لا عظيمًا في نهجها الفكري، أصبح الإغفاء
عنه، والتمادي فيه مهددًا لاستمرار لحمتها، واستمرار ثقة الناس بأهليتها لتنفيذ مشروعها الذي جمعتهم، عليه
أو أطمعتهم في قيامه، وبأنه أمل الأمة وملاذها من كل ما تجرعت من ويلات التاريخ الحديث، وفجره ا
. 1 آبرى اليقينيات الكونية، 29
. 2 مراجعات في الفكر والدعوة، 85
الصادق الذي سيمحق ظلام ليلها البئيس الحالك، وغدا الانقسام الفكري واقعًا لا ينبغي التماري فيه، ولولا بقية
من إيمان وزهد وحكمة، وعدو متربص لكان لها شأن آخر. والعصمة مما يكره غير ممكنة م ا لم تكن
مراجعة يترتب عليها إصلاح المسار، ومنهج علمي يلتقي عليه الناس، " فخلق ملكة عقلية لدى كل فرد من
أفراد الجماعة هو ... الأساس الأعمق لضمان توحيدها وتنظيمها، وهو شرط التواصل الأجتماعي. وأصل
التواصل ليس مشاركة جميع الناس أو اشتراكهم في أفكار واحدة، وإنما خضوع تفكيرهم إلى طرائق ومعايير
مشتركة أساسية، مما لا ينفي أيضًا الاختلاف في الرأي، والانفراد في الأفكار، فإذا غابت هذ ه الطرائق
والمعايير المكونة للغة التواصل الأساسية زالت إمكانية التفاهم، وفقدت الجماعة مبرر وجوده ا" 1، ويزداد
الخطر مع كل أزمة شديدة تنتهي بمزيد من تردي حال الأمة، يورث إحباطًا وزعزعة ثقة بالرؤوس التي
ملكت نواصي قوم فوضوا إليها أمرهم؛ ليقودوهم إلى حيث يعزون دين الله، وينتصفون من أعدائهم، ويحيون
كرماء بدينهم، ويملكون أمرهم في كل شيء.
ولم يعد ينفع ترداد المقولات الواثقة على غير أساس، المثبتة على البؤس والوهن، من قبيل أن المستقبل لهذ ا
الدين، وأن النصر آت لا محالة، فإن الدين فكرة لا تنصر نفسها.
والنصر إنما يستجلب بالأعمال الراشدة المتعلقة، والتخطيط المبني على علم وفكر وإحصاء، وتدين صحيح،
ودراسات موضوعية. والغفلة عن هذا كله هي التي جعلت حبل مشنقة النصارى يدنو كل يوم من أعناق
المسلمين، على حين يتلهون بالآمال، ويملأون الفضاء بالكلام، وينتظرون أن ينبت النصر في الأرض، أو
يتنزل من السماء.
لقد ترسخت في وعي المسلمين منذ فجر تاريخهم ثقافة سلبية بعيدة الجذور في النفس، باعدت بين وعيهم
والمنهج العلمي، سببها تغليب جانب من الإسلام على سائر جوانبه، نهجه بعض أعلام السلف الكبار بكلفهم
بالزهد والتوكل والخوف، والاتباع والخشية من الابتداع، فأنساهم ما كلفوا به غيره، غير ملومين فيما فعلو ا.
لأنهم كلفوا ما أطاقوا وعملوا كما فهموا وعلموا، ولأنهم كانوا أبناء زمانهم ونتاج واقعهم الفكري والثقافي
والعلمي ولما كان لهؤلاء من المكانة والجلال في النفوس ما صيرهم المثل العليا للمسلمين التي تنقطع إليه ا
الأعناق – غدا فعلهم هو الإسلام كل الإسلام، والدستور الثقافي المستحكم في الشعور والعواطف، وكل مخالفة
له مخالفة للإسلام. ولا أدل على هذا من أننا نجد عقدة الشعور بالذنب من العناية بالدنيا راسخة في قلوب
المسلمين رسوخًا لا يتزحزح، حتى ولو كان أصحابها من المنفقين في السراء والضراء الذين يحملون الكل،
ويعينون الضعيف، ويساعدون على نوائب الدهر. فإن عيونهم شاخصة أبدًا إلى أن يكونوا في الدرجة العلي ا
من الفقر التي حلها بعض الزاهدين، فذلك أجل ما يوفق الله إليه عبادة الصالحين!! ودليل ثان أننا لو أحصين ا
ما كتب في الزهد لم نجد ما كتب في البطولة يعدل معشاره. ولا يعدل ما كتب في عزة النفس، وإباء الضيم،
والانتصار من البغي والبغاة، والعدل والحرية، والاستقلال معشار ما كتب في العفو والصبر، والتسامح،
. 1 اغتيال العقل، 98
والذلة على المؤمنين، إن كان التراث الإسلامي كله قد جفل –يومًا – بالكتابة عن الكرامة والعزة والحرية، مع
أن القرآن كما حض على الصبر والعفو والذلة على المؤمنين، وحض على تلك : "ولله العز ة ولرسوله
وللمؤمنين" ، " والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون - 39 -"، " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم
مؤمنين- 139 -" ، لقد حفل التراث الإسلامي بقتل النفس بتلك الأخلاق الفاضلة، ولم يبث فيها الروح بهذ ه
الأخلاق الكريمة، فكانت مهمته إخراب الدنيا لعمارة الآخرة، أكثر مما كانت إعتد ا ً لا واقتصاد ًا يصلحهم ا
ويعمرهما على سواء.
ومما يؤخذ به جلنا من زهد الزاهدين أكبر مما يؤخذ به من أخلاق البطولة والأبطال والقوة والأقوياء، الذين
سخروا بطولتهم وقوتهم في سبيل الله، فكان فضلهم على دين الله وعلى الخالق أجل من فضل زهد الزاهدين
عليهم. كما كان فضل خالد وسعد وأبي عبيدة وصلاح الدين ومحمد الفاتح ومحمود الغزنوي ببطولتهم وقوتهم
اللتين  سخرتا للتمكين للإسلام في الأرض، وهداية الخلق إلى الله أعظم نفعًا لدين الله من زهد من زهد وتبتل
من تبتل.
ودليل ثالث أن مكانة الذين عنوا بالنحو والصرف وعلم الكلام والتاريخ مث ً لا أجل في نفوس الأمة أضعاف ًا
مضاعفة من علماء الطبيعة الكبار، بل لقد رميت فئة من هؤلاء بالسحر والكفر ورقة الدين.
فنحن نعرف كثيرًا عن بعض النحاة الذين لم يكن لهم من الفضل في الحضارة الإسلامية سوى نظم بعض
قواعد اللغة أو تأليف كتاب مكرور المضمون قليل الفائدة، من قبيل الاختصار أو الشرح أو الجمع، ولا نعرف
إلا قلي ً لا عن علماء الفلك والرياضيات والكيمياء والفيزياء الكبار، الذين كانت لهم أياد جليلة في تغيير مسار
التاريخ، وما نعرفه هو معلومات مسطورة في بعض الكتب القديمة، لا يكاد أحدنا يقرؤه ا. ولقلة الوعي،
وضيق الصدر بهذه العلوم لم تستثمر جهود أصحابها وكشوفهم في تقدم الأمة ولم تعمم على طلاب العلم، ولم
يعن على تطويرها وتقدمها، واقتصر منها على الطب وعلم الأدوية لأنهما هما اللذان عرفت فائدتهما العملية،
وترك ما سواهما فمات، حتى بعثته أمة أخرى، فاستعبدت بما عرفت منه الخلق، وسخرت الكون، وفتنت
الأمم.
وهذه الظاهرة الأصيلة فيما يسمى في الفكر الإسلامي الحديث في حاجة إلى عمل مضن لاستئصاله ا من
العقول، وإحلال روح التطلع والاستكشاف والإبداع محلها، ولن يستأصل ذلك ويحل هذا إلا بالتربية على
منهج عقلي ناقد مستبصر، لا يتبع مسلمًا إلا من يجب اتباعه والتسليم له.
لقد جر علينا العقل الاتباعي جل ما نحن فيه من تخلف، إذ ما هو إلا أن يقول عالم قو ً لا حتى يقدسه من يتبعه،
ويقف عنده لا يتقدم عنه ولا يتأخر، على حين ينتقد غيرنا ويفكر ويقوم ويتجاوز ويضيف، وكل من جاء بعده
فعل بفعله ما فعل هو بفعل من سبقه، حتى تتمحص الأشياء وتخلص، ثم تصبح جاهزة للتنفيذ، فتربى عليه ا
العقول، فتتولاها فتنتفع بها في حياتها، ما دامت نافعة، أو خيرًا من سواها، فإن تبدلت تبدل بها.
وهذه التربية هي التي ستخرجنا من تاريخ إلى تاريخ. أما إن ظلت الأمة واهنة، ميتة الأوصال، حالمة واثقة
بالسراب فلا معول عليها في صنع شيء. ولا معول – بعد الله تعالى – إلا على ثورة فكرية تنفي الغثاء،
وتطيح الأفكار الميتة والأفكار القاتلة، وتكنس هذا الواقع السقيم الذي صنعته الببغاوات المتعالمة الخاطبة في
كل ما تجهل.
" والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".
المراجع
1419 ه. ؛ -1 إعمال العقل. لؤي صافي، دمشق: دار الفكر، ط 1
.1992 ؛ -2 اغتيال العقل. برهان غليون، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 6
1403 ه. ؛ -3 الاقتصاد في الاعتقاد. أبو حامد الغزالي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1
-4 إيقاظ الهمم بشرح الحكم. ابن عجيبة الحسني. ( من غير تاريخ).
-5 تجديد الفكر الإسلامي. حسن الترابي، الخرطوم: شركة مطبعة إيمان، 1980 م.
.1993؛ -6 تجديد الفكر العربي. زكي نجيب محمود، القاهرة: دار الشروق، ط 9
1421 ه. ؛ -7 تجديد الوعي. عبدالكريم بكار، الرياض: دار المسلم، ط 1
-8 الحركة الإسلامية بين الثقافي والسياسي. محمد يتيم، الدار البيضاء: الزمن 1999 م.
؛ -9 الحركة الإسلامية ومسألة التغيير. راشد الغنوشي، المركز المغاربي للبحوث والترجمة، ط 1
1421 ه.
1994 م. ؛ -10 حوار مع الفضلاء الديموقراطيين. عبدالسلام ياسين، الدار البيضاء: الأفق، ط 1
1408 ه. ؛ -11 الذريعة إلى مكارم الشريعة. الراغب الأصفهاني، تح أبو اليزيد العجمي، دار الوفاء، ط 2
-12 رسائل الجاحظ. تحقيق عبدالسلام هارون، القاهرة: مكتبة الخانجي.
-13 صيد الخاطر. ابن الجوزي، تح محمد عبدالرحمن عوض، بيروت: دار الكتاب العربي، 1405 ه.
1415 ه. ؛ -14 العمل الإسلامي والاختيار الحضاري. محمد يتيم، الكويت: دار القلم، ط 1
1405 ه. ؛ -15 في النقد الذاتي. خالص جلبي، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 3
1999 م. ؛ -16 عوامل الشهود الحضاري. عبدالحميد النجار، بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط 1
1979 م. ؛ -17 قصة الفلسفة. ول ديورانت، ترجمة فتح الله المشعشع، بيروت: دار المعارف، ط 4
1419 ه. ؛ -18 قواعد الأحكام في مصالح الأنام. عز الدين بن عبدالسلام، بيروت: مؤسسة الريان، ط 2
1421 ه. ؛ -19 كبرى اليقينيات الكونية. محمد سعيد رمضان البوطي، دمشق: دار الفكر، ط 4
-20 مراجعات في الفكر والدعوة والحركة. عمر عبيد حسنة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1421 ه.
-21 مسألة المعرفة ومنهج البحث عند الغزالي. أنور الزعبي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ودار الفكر،
1420 ه. ؛ ط 1
-22 معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام. محمد عمارة، مصر: دار نهضة مصر، 1997 م.
-23 المفردات في غريب القرآن. الراغب الأصفهاني، تح محمد سيد كيلاني، بيروت: دار المعرفة.
-24 مقدمة ابن خلدون. بيروت: دار القلم 1406 ه.
1420 ه . ؛ -25 من أجل انطلاقة حضارية شاملة. عبدالكريم بكار، بيروت، الدار الشامية، ط 1
1421 ه. ؛ -26 مناهج التجديد. تحرير عبدالجبار الرفاعي، دمشق وبيروت: دار الفكر، ط 1
-27 المنقذ من الضلال. الإمام الغزالي، تح جميل صليبا وكامل عياد، بيروت: دار الأندلس.
-28 الموسوعة العربية العالمية.
منقول من موقع الدكتور جاسم السلطان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق