الأحد، 5 أبريل 2009

تحرير المعرفة

بسم الله الرحمن الرحيم

نبيل شبيب
تحرير المعرفة

(1) الكلمة بوّابة الحوار فالنهوض
(2) الكلمة في متاهة الفلسفة
(3) كل كلمة في واد
(4)الكلمة والكلمة المنضبطة بالوحي
(5) الكلمة بين القيود والضوابط
(6) الكلمة في نفق الإلحاد
(7) الدين يحرّر العلم والمعرفة












تحرير المعرفة
(1) الكلمة بوّابة الحوار فالنهوض

في مقدمة معضلات النقلة الضرورية ما بين الكلام عن النهوض والتقدم وبين سلوك طريقه، أنّ النهوض قضية جماعية، وما نزال نتعامل معها من منطلقات منظور التجزئة بمختلف أشكالها، تيارات، وأحزابا، ودولا، فلا نصل إلى أرضية الانطلاقة الأولى.
بناء المستقبل لا يتحقّق إلاّ جماعيا، فلا مستقبل لفئة، أو تيّار، أو طائفة، أو تنظيم، أو فرد من الأفراد، أو بلد، بمعزل عن مستقبل سائر الفئات والتيّارات والطوائف والتنظيمات والأفراد والبلدان الأخرى. وقد يختلف العاملون وهم يعملون فيتحقّق الإنجاز ويكمل بعضه بعضا، ويقع الخطأ ويجد التصحيح، إنّما يستحيل العمل عند انتظار الشروع فيه إلى ما بعد تجاوز الاختلافات، فتغييبها هو المستحيل.
إنّما يتطلّب العمل الجماعي -رغم الاختلاف- أرضيّة مشتركة تَضبط بقواعد مشتركة المنطلقات والمسيرة والأهداف، والتعامل من وراء الاختلاف بتلك القواعد.
وليس من سبيل للوصول إلى ذلك دون حوار وتفاهم، وبالتالي لا مندوحة عن تثبيت قاعدة أولى بسيطة وبالغة الأهمية، أن تُفهم الكلمة عند سامعها أو قارئها على نحو مطابق لمقصد قائلها أو كاتبها، سواء اتفق الطرفان على تأييد مضمونها أم اختلفا.

وإذ نتوجّه إلى جيل المستقبل ليتابع الطريق، يجب أن نتساءل: أي طريق؟..
إنّ نظرة واحدة إلى المصطلحات التي نردّدها له باستمرار وبكثافة، عبر الدعوات في كلّ اتّجاه، لا سيّما الأخذ بما أخذ به التنوير الأوروبي وبالحداثة، تكفي للقول إنّنا أمام عدد كبير من الطرق المتشعّبة، التي يصل التناقض والتضارب فيما بينها درجة تستحيل معها رؤية طريق ما، أي طريق، توصل إلى هدف ما، أيّ هدف.
وإذا كان الحوار بين أصحاب تلك الطرق المتعدّدة عسيرا وكان الحوار بين التيّارات المتعدّدة متعثّرا أو متعذّرا، فكيف يُنتظر من جيل المستقبل أن يجد لنفسه طريقا للخروج من الواقع الذي صنعناه له، وهو واقع التخلّف على كلّ صعيد؟

إذا كان الحرف صوتا منطوقا، واللفظة مجموعة حروف، والكلمة لفظة مفهومة، فالمصطلح مفهوم محدد، وضوابط التحديد شرط ليكون لبنة في صرح العلم والمعرفة.
وإنّ الكلمة التي تُقال أو تُكتب فتُفهم كما يعنيها صاحبها كانت وما تزال هي الأساس الأوّل ليحقّق أيّ حوار أو تفاهم أو تعاون أهدافه. ولهذا فإنّ الخروج من دوّامة المصطلحات هو من بين الشروط الأولية للنهوض وبناء المستقبل.
ومن أخطر ما يصنعه جيلنا المعاصر أنّه لا يورّث جيل المستقبل -وهو مناط بناء المستقبل.. وليس نحن- عواقبَ ما صنعناه من كوارث ونكبات فحسب، بل يورّثه أيضا دوّامة المصطلحات، التي إن سقط فيها كما سقطنا، بقي غارقا في الخلاف حول الكلمات كما غرقنا، وهيهات أن يتحقّق هدف النهوض، دون أن تتركّز من أجله الجهود -وليس الكلمات- عملا وإنجازا. ولا نكتشف جديدا عندما نكرّر التأكيد أنّ الكلام وحده لا يصنع النهوض، ويمكن أن يعيقه، بأن يشغل عن العطاء والإنجاز التراكمي المطلوب بلا انقطاع.
صحيحٌ أنّ مشكلة فوضى المصطلحات لا تخصّ الناطقين بالعربيّة فقط، ولكنّها ترتبط لديهم في الوقت الحاضر بمشكلات ما قبل النهوض وبافتقاد مرجعيات معتبرة وموثوقة عموما لكل باب من أبواب البحث، علاوة على إضعاف مفعول الارتباط بمعطيات ذاتيّة، قيمية وموضوعية، كان من شأنها في الأصل أن تزيد الحرصَ الذاتي على ضبط المصطلحات والالتزام بقواعد منهجية في استخدامها.

والمصطلح هو ما اصطلح على دلالته المتخصّصون في باب من أبواب التخصّص، فيسري مفعوله نتيجةَ منهجيّةِ تثبيتِ المفهوم لمضمونه، ووضوح دلالته، والالتزام به. وذاك ما كان عليه الأقدمون من هذه الأمّة، عند مطلع نهضتها الأولى، وطوال مراحل تلك النهضة من بعد، وكانوا يطلقون كلمة المواضعة على ما نسمّيه المصطلح، فهو ما تواضع عليه الحكماء، كما وصفوا المتخصّصين في كل باب من أبواب العلم والمعرفة.
هذا ما نشأت عليه العلوم الإسلامية الأولى، وتابعت خطاه سائر العلوم من بعد، كالطب والفلك والفيزياء والرياضيات، وما تزال المصطلحات التي ثبّتوا دلالاتها آنذاك، سارية المفعول إجمالا حتّى اليوم.
ومن فضل القول التنويه هنا بأنّ المقصود بهذا الحديث ليس البحث في مصطلحات العلوم الطبيعية والتقنية، وهي قليلا ما تتعرّض للاختلاف والتزييف، بل مصطلحات ما يُسمّى العلوم الإنسانية، كالفلسفة والفنون والآداب والثقافات والأفكار والسياسة والاقتصاد وغيرها. المقصود ما يُؤثّر في الإنسان نفسه وفي تصوّراته ومناهجه وقيمه وثقافته وأذواقه وأخلاقه وأساليب عمله وتعامله مع سواه، وذاك ما يفتح طريق النهوض فيصنعه الإنسان المؤهّل للنهوض، إن توافرت له أسبابه الأخرى، وذاك ما نحتاج إليه أمسّ الحاجة في المرحلة الراهنة.

وإنّ من أهمّ جوانب استيعاب المرحلة التاريخية المعاصرة والتعامل مع معطياتها العملَ على رَدْم الفجوة الكبيرة بين ما يُسمّى النخب وبين جماهير الأمّة، لا سيما جيل المستقبل منها. ومن الواضح أنّ ما يُطرح في الساحة الفكرية والأدبية والثقافية في الآونة الأخيرة بدأ يتجاوز حقبة الصراع المطلق لتتداخل فيه محاور متعدّدة للحوار والبحث عن إمكانات التلاقي، وهو ما تختلف أساليبه وتتفاوت حدّة الاختلافات فيه والمساعي المبذولة لتجاوزها، ولكن تبقى الصورة بمجموعها مؤشّرا إيجابيا في اتجاه صحيح. رغم ذلك يبدو أنّ الحوار يجري بين فئات محدودة العدد، بمعزل عن عامّة الشعوب، لا سيّما جيل الشبيبة الذي يمثّل النسبة الأكبر من السكان، والذي يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل.

وليس صحيحا تعليل هذه الفجوة بتعميم الاتهام القائل إنّ العزوف عن القراءة والمتابعة الجادّة هو جوهر مشكلة عزلة النخب جماهيريا. إنّ عزلة النُخب لا ينبغي اختزالها بتحميل المسؤولية للجماهير، بل توجد عوامل عديدة أخرى ليست موضع الحديث هنا، إنّما يبقى العنصر الحاسم هو أنّ مسؤوليّة الوصول بأفكار مَن ينتسب إلى تلك النخب أو ينسب نفسه إليها بإبداع أدبي وعطاء ثقافي وطرح فكري، هي مسؤوليته التي تفرض عليه هو أن يراعي واقع القارئ المستهلك واحتياجاته، في مضمون إنتاجه وأسلوب تعبيره. ومن المغالطات الخادعة للنفس الزعم القائل إنّ هذا يهبط بمستوى الإنتاج، فقيمة الإبداع أو الفكرة أو الطرح الجديد ليست قيمة ذاتية بمعزل عن الوسط الذي ينتمي القلم إليه ويستهدفه، بل تعلو تلك القيمة بمقدار ما يتمكّن صاحب القلم من الوصول بأرقى ما يستطيع عطاءه إلى أوسع قطاع ممكن من الوسط الاجتماعي الذي يحتضنه ويعتبر نفسه فيه من النخبة.
إنّ النماذج المعروفة من الإبداع العالمي، التي تجاوزت الحدود وانتشرت في القارات الخمس ترجمةً وتفاعلا، لم تصل إلى هذا المستوى العالمي عبر مضامين وأساليب متميّزة بخصوصيّتها فحسب، بل من خلال قدرة أصحابها على الجمع بين الإبداعِ مضموناً يمسّ احتياجات إنسانيّة جامعة، والعطاءِ أسلوباً تستوعبه وتتفاعل معه أعداد كبيرة من أبناء الأسرة البشرية.

وإنّ تقديم الأفكار -بغضّ النظر عن قيمتها الذاتية- في قوالب تعبير مستعصية على الفهم إلاّ عند قطاع محدود من النخب نفسها، يساهم في بقاء تلك النخب وعطاءاتها فيما تسمّيه -وهما- برجها العاجي، بعيدة عن الشعوب وهمومها وتطلّعاتها المستقبلية. ومَن يتابع ما يُطرح حديثا من كتابات تحت عناوين متعدّدة للحوار الفكري الإيجابي المنبعث مجدّدا في هذه المرحلة، يمكن أن يرجّح بقاء قسط كبير منه في واد، وجيل المستقبل في واد آخر. والمفروض أن يدرك الكتّاب الذين يرون أنفسهم في موقع النخبة، أنّ القارئ ليس من نخبتهم بالضرورة، أم أنّهم لا يكتبون إلاّ لها؟.

تساهم في هذه الظاهرة كثرةُ استخدام بعضِ الكتب الفكرية المنشورة حديثاً مفرداتٍ من قبيل: "ميتافيزيقي، أنثروبولوجي، إبستمولوجي، بروميثيوثي، كوسموبوليتي، هرمينوطيقا، سيميوطيقا.."، أو من قبيل "عضواني، مواطنوي، طوباوي، دولتانية، تاريخاني، قيامي، جنساني.."، والقائمة طويلة. ويشير سياق الكلام أنّ الكاتب ينطلق غالبا من أنّ القارئ، الذي قد يعلم بوجود تلك الكلمات، لكثرة تداولها بمعانيها السطحية أو الشائعة، يجب أيضا أن يكون عارفا بخلفيّاتها الفلسفية، وربّما بتناقض استخداماتها بين الكتّاب أنفسهم، ثمّ عليه التسليم بما يقصده هو من معانيها، هي وأمثالها، وأمثالُها كثير، وإلاّ فكيف ينتظر من القارئ أن يتفاعل معها وفق استخدام الكاتب لها؟..
وليست المشكلة محصورة في مفردات أجنبية تُكتب بحروف عربية، بدلا من استخدام ما يغني عنها لغويا أو اشتقاق ما يقابلها من مفردات مبتكرة يأنس اللسان العربي لها، وتستحسنها النفس لسهولة انسيابها في نسيج اللغة الذاتية. ويستحيل على أيّ حال تعريبُ مصطلح أجنبي تعريبا قويما بمجرّد كتابة اللفظة الأجنبية أو نطقها بحروف عربية.
كما لا تنحصر المشكلة في استخدام اشتقاقات قد يصلح القليل منها ولا يصلح الكثير، ممّا لم يعرفه الأقدمون ولا ابتكره المعاصرون ابتكارا سويّا. إنّما هي -في جوانبها الأخرى- مشكلة أنّ الكاتب ينتظر من عامّة القراء أن يحمل كلّ منهم تحت إبطه عدّة معاجم وقواميس، من أجل أن يفهم ما يخاطبهم به، أو أنّه لا يخاطب عامّة القرّاء أصلا، وذاك أدهى، والأمرُّ منه أنّ من الكتّاب من يريد أن ينسلخ القارئ العربي من جلده ليستوعب -عبر المستهجَن من الألفاظ والغريب من المصطلحات- ما يراد صبّه صبّاً في عقله وقلبه!.
ثمّ إذا بصاحب تلك المفردات والأساليب يشكو من غربة أفكاره جماهيريا، فيتّهم الجماهير بالعزوف عن القراءة أو انخفاض مستوى الوعي أو الانغلاق تجاه أفكار "إنسانيّة عالمية" أو ما شابه ذلك.
ونتجنب في هذا المقام الإطالة بالوقوف عند اعتبارات أخرى ممّا يتّصل بوجود مَن ينقل مصطلحات ومقولات أجنبية دون استيعابها إلا استيعابا سطحيا، وما يتّصل بالعمل قصدا على التغريب اللغوي والفكري عموما، وجميع ذلك يجعل مَن يعزلون أنفسهم بالإصرار عليه يعجزون عن الوصول إلى أمّةٍ لسانُها عربي، ومكوّنات فكرها وتاريخها وأحاسيسها وأذواقها هي مكوّنات المنطقة الحضارية الإسلامية، الشاملةُ بتأثيرها جميعَ سكّانها، على اختلاف انتماءاتهم العقدية والقومية.

ليس القارئ هو المسؤول الأوّل عن ضمان شروط فَهْمِ ما يُطرح فكرا وأدبا وثقافة حوله، بل بداية المسؤولية عند صاحب القلم، أن يوجد الشروط التي توصله إلى القارئ كما هو في واقعه الآني، ليؤثّر عليه بقدر ما يتأثر هو بواقعه واحتياجاته، وهذا ما يسري على كلّ عطاء، قوليّ وعملي.
ولدينا في ذلك على سبيل المثال ما قال به علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ((حدّثوا الناس بما يعرفون)) -صحيح البخاري/ كتاب العلم- وما قال به عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ((ما أنت محدّث قوماً بحديث لا تبلغه عقولهم إلاّ كان لبعضهم فتنة)) -صحيح مسلم/ المقدّمة-

وتُنسب إلى الفيلسوف الألماني شوبنهاور كلماتٌ مفيدة بشأن أسلوب الخطاب والكتابة:
"إذا أردت إلقاء خطبة ناجحة، استخدم كلمات مألوفة، لقول الأشياء غير المألوفة".
"الذكيّ في المحادثة من يفكّر بمن يتحدّث إليهم أكثر من تفكيره بما يتحدّث عنه، فإن صنع ذلك، تأكّد له أنّه لن يقول ما يندم عليه لاحقا".
"كثرة الاستشهادات تزيد حقّ الكاتب أن يُنظر إليه أنّه امرؤ واسع الاطلاع، ولكنّها تُنقص نسبة أصالة عطائه.. وما قيمة الاطلاع دون عطاء ذاتي!".
"الذين يؤلّفون خطبا صعبة، مظلمة، معقّدة، مزدوجة المعنى، لا يعلمون على التحقيق كيف يقولون ما يريدون قوله، إنّما لديهم وعي ضبابيّ يصارع حول فكرة ما. ولكن كثيرا ما يريدون أن يواروا عن أنفسهم وعن الآخرين، عدمَ وجود شيء لديهم ليقولوه".

ولكن لعلّ مِن الكتّاب مَن يريد فعلا استثارة إعجابٍ مصطنع لدى القارئ، ممزوجٍ بالرهبة تجاه علوّ كعب(!) صاحب القلم، المبدع في عالم اللغة والتعبير، وسعة أفقه في عوالم الفلسفة والثقافة. قد يوجد مَن يظنّ حقيقةً أنّ هذا الانطباع المصطنع يوصل إلى الاقتناع تسليما بالمضمون دون استيعابه، لا أن يشكّل النصُّ حاجزا بين كاتبه وقارئه. هذا ناهيك عن سبك العبارات سبكا يتفنّن صاحبه في التصنّع والتنطّع والتعقيد فيه، كما تغتال صياغتُه تواضعَ العلم اغتيالا، بسكّين تعالي معلّمٍ شاخَ وشاخ علمه على تلاميذ صغار بين يديه، وبخنجر التكبّر اعتدادا بالنفس وتعصّبا.

إنّ النّخب لا تصنع نفسها بنفسها، ناهيك عن أن تصنع التغيير بتبادل الأفكار فيما بينها، سواء اختلفت عليها أو توافقت، إنّما يبدأ التغيير بأفكار نخب تنبثق عن الشعوب، فتعود بأفكارها إليها لتصنع هي التغيير في نهاية المطاف، والكلمة هي بوابة الحوار على هذا الصعيد.











تحرير المعرفة
(2) الكلمة في متاهة الفلسفة

هل يصحّ -من المنظور الإسلامي- وصف حَمَلَةِ الدعوات المنبثقة عن فلسفات التنوير الأوروبي والحداثة وما بعدها بالمتغرّبين.. ورفض مقولاتهم بحجّة التغريب؟..
هل يسري وصف التهافت على الفلسفات الغربيّة لتناقضها كليّا أو جزئيّا مع ثوابت إسلامية؟..
ألا ينبغي الأخذ بتلك الدعوات إلى تنوير وحداثة، لتحديث البلدان الإسلامية ودخول حلبة التقدّم والتطوّر؟..
تتردّد هذه التساؤلات وأمثالها بصيغ متعدّدة، وعند النظرة الهادئة فيها تظهر عدّة أخطاء، من حيث منطلق مَن يطرحها كما لو أنّ جميع ما يقول به أصحاب تلك الدعوات مرفوض جملة وتفصيلا، ثمّ من حيث الصياغة، كما لو أنّ طريق الإنتاج علما وتقنية وإنتاجا لا يمكن سلوكه إلاّ عبر قنوات صناعة الأعراف والأذواق والأخلاق والقيم على الطريقة الغربية حَصْرا.
بالمقابل: هل نصبح غربيين فعلا عبر الأخذ بتلك الدعوات أو بعضها ليصحّ وصف أصحابها بالتغريب.. أم يمكن الأخذ بها أو ببعضها دون أن نصبح غربيّين؟..
وإذا تجاوزنا على وجه التخصيص من الدعوات الغربيّة المنشأ ما يحمل خلفية فلسفية لتوجيه صناعة الإنسان، فما الميزان المطلوب لنحقّق أهداف التقدّم العلمي والتطوّر التقني والتحديث المادي والشراكة العالمية والإنسانية، على أن يبقى لنا في الوقت نفسه من مواصفاتنا الذاتيّة الأساسيّة، ما يكفي ليحدّد بوضوح أننّا ننتمي إلى دائرتنا الحضارية الإسلامية، من مسلمين وغير مسلمين، وعرب وأكراد وأتراك وغيرهم، إلى جانب كوننا جزءا من الأسرة البشرية، فشبيه ذلك ما يسري على أهل البلاد التي مضت على طريق التقدّم والتطوّر والتحديث، دون فقدان ما كانوا عليه وما يزالون، فهم في وقت واحد مسيحيون وغربيّون، أو أمريكيون وغربيّون، أو فرنسيون وأوروبيّون.. وقل مثل ذلك في أهل اليابان والصين والهند والبرازيل وغيرهم، وهم جميعا من الأسرة البشرية، فلا يوجد ما يفرض التخلّي عن انتماء بعينه لحساب آخر، ولو بدا أنّه الأوسع أو الأشمل عددا.
وهذا ما يمكن تأكيده من منطلق الإسلام بالذات، وفق الخطاب القرآني للمسلمين بالذين آمنوا، إلى جانب أنّهم مقصودون بالخطاب الشامل لهم ولسواهم في مثل يا أيّها الناس، أو يا بني آدم.

إنّ الموقف المطلوب والموضوعي إزاء ما يُطرح من تصوّرات ومناهج هو تحديد ماهية العناوين المتداوَلة، بدءا بالفلسفة، والحداثة، وما بعد الحداثة، والتنوير، وما انبثق وانتشر عنها، وتحديد خلفيّات تلك العناوين ومضامينها ومصطلحاتها تحديدا واضحا، للعامّة لا الخاصّة فقط، ولشبيبة جيل المستقبل على وجه التخصيص، وهم أصحاب حقّ القبول أو الرفض، على أساس الاستيعاب الموضوعي، مع رؤية الصلة الواصلة بين العناوين المرفوعة والمضامين الفعلية في تلك الدعوات والنتائج المترتّبة عليها، ممّا يرتبط تطبيقه وتنفيذه بتكوين الإنسان الفرد من هذا الجيل، وبالبيئة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي يراد أن يعيش فيها، فهو مَن ينبغي أن تكون له الكلمة الفصل، لا أن تُطرح مسألة مستقبله بأسلوب الوصاية عليه أو أسلوب الاحتكار المقترن بالتعصّب وبإقصاء أطروحات أخرى.

ثمّ إذا كشف البحث عن كون بعض هذه الدعوات قويما، وجب السؤال من الناحية الموضوعية:
1- عن الحاجة الفعلية إليه..
2- ثمّ عن احتمال وجود ما يَفْضله..
3- ثمّ عن كيفية الأخذ بما يراد الأخذُ به دون الالتزام بسواه..
وإذ أنّ الدعوات المعنيّة حافلة بأطروحات متناقضة، يضرب بعضها بعضا، يستحيل الأخذ بها جميعا في وقت واحد، فلا بدّ من السؤال أيضا:
4- إذا أردنا عن وعي واستيعاب وبصيرة الأخذَ ببعضها، ما هو معيارنا للحكم بصواب هذا أو ذاك وصلاحيته وتلاؤمه مع احتياجاتنا، من بين مضامينها ومحتوياتها المتعدّدة المتناقضة؟
5- لا يفيد هنا قول من يقول إن هذا الرأي أو ذاك التصوّر "عالمي إنساني مشترك" فيجب الأخذ بها دون جدال، فلا يوجد في عالمنا وتاريخه شيء من ذلك، ومن يطلب هذا الطلب يسقط سقطة خطيرة في الوصاية الاحتكارية للحق والصواب، ويتناقض مع نفسه، لا سيما وأن غالب من يتحدّثون بهذا الأسلوب، يزعمون أنهم ضدّ التوجهات العقدية/ الإيديولوجيات، ويزعمون موتها!..

إنّ المعطيات المبدئية لضبط التعامل مع دوّامة المصطلحات المتداوَلة وما فيها، وبيان مصادرها ومفعولها ومقاصدها، تفرض البحث في خلفيّاتها الفلسفية أو خلفيات نماذج منها تصلح معيارا لسواها.. هذا رغم إدراك الصعوبة الكامنة في طبيعة الموضوع، لا سيّما مع إضافة الحرص على تعبير وأسلوبٍ يجمعان بين:
1- البحث المنهجي إلى درجة يقبل بها المتخصّصون رغم سعة نطاق الموضوع.
2- التبسيط الضروري للوصول بالحصيلة إلى من يخاطبهم هذا الحديث، وهم جيل المستقبل.

عند استخدام كلمةٍ اصطلاحية من قبيل إبستمولوجيا، المنقولة عبر منح لفظها الأجنبي حروفا عربية، قد يبدو للوهلة الأولى أنّ هذا جزء من مواكبة تطوّر مسيرة العلوم عالميا -أي غربيّا- عبر اختيار "تسمية عالميّة" -أي غربية- لفرع علمي جامعي فلسفي، وأنّ التعبير العربي: علم نظرية المعرفة، لا يرضي مَن يفضّلون استخدام تلك الكلمة.
وعند التأمّل في الخلفيّات الفلسفية لكلمة إبستمولوجيا، واستخدامها على طريقتين:
أولاهما طريقة من يعتبرها الكلمة الأجنبية المرادفة لنظرية المعرفة وفق مسيرتها الفلسفية التاريخية في الغرب عموما..
والثانية طريقة مَن يطلقها حديثا لتأكيد اتجاهٍ متميّز في علم المعرفة، ظهر في الساحة الفلسفية الفرنسية بالذات..
آنذاك يمكن أن يتولّد الانطباع أو أن ينشأ التساؤل، ما إذا كان المقصود من التركيز على كلمة إبستمولوجيا هو تبنّي ما تقول به المدرسة الفرنسية حول المعرفة وتحصيلها، ولهذا خلفيّته، ذات الصلة المباشرة بما انتشر في الساحة الفلسفية الفرنسية أكثر من سواها، من معين اتجاهات ما بعد الحداثة واتجاهات علمانية متشدّدة.
مثل هذا الانطباع أو التساؤل هو الحدّ الأدنى الذي يفرض الحوار وينفي "عالمية" ما يُنشر من مصطلحات مع زعم عالميتها، وهذا ما يسري على معظم المصطلحات المنقولة عن عالم الفلسفات الغربية، بالترجمة، أو بالتعريب، أو بالألفاظ الأجنبية الأصلية مكتوبة بحروف عربية، وعلى الخلفية الفلسفية لهذه المصطلحات المنقولة يقتصر الحديث هنا.

ليست المصطلحات المنقولة المتداوَلة مجرّد كلمات، بل هي قطع كبيرة وصغيرة من الجسد المعرفي الغربي، أو من أجساده الهيولية المتعدّدة والمتبدّلة عبر مسلسل تطوّرها التاريخي:
(1) بدءاً بتسميات علوم قديمة ومستحدَثة، مثل سوسيولوجيا بدلا من علم الاجتماع، وأنطولوجيا بدلا من علم الوجود، وأركيولوجيا بدلا من علم الآثار.
(2) مروراً بتسميات اتجاهات فلسفية شتّى، من قبيل البنيوية والعضوية والسببية، أو الإمبريقية والأبيقورية والميتافيزيقية.
(3) وصولاً إلى تسميات مناهج متكاملة نشأت عن اتجاهات فلسفية شمولية وتطبيقاتها العملية، مثل الرأسمالية والشيوعية، أو الثيوقراطية والديمقراطية، أو الإمبريالية والليبرالية.
(4) انتهاءً بأطروحات جامعة لمعتقدات وتصوّرات أشمل، مثل العلمانية والحداثة والتنوير.

ولا يكاد يوجد مصطلح من هذه المصطلحات بمختلف أنواعها والمصطلحات المنبثقة عن كلّ منها، ما يمكن إعطاؤه مفهوما واحدا بدلالة واضحة وقاطعة، سيّان في ذلك:
(1) المصطلحات التي سرى استخدامها على الألسنة أكثر من سواها، مثل الواقعية والعقلانية والموضوعية، ولكن تضاعفت مشكلة فوضى التعامل معها نتيجة شيوع استغلالها بغير مفاهيمها الأصلية ولغير أغراضها الفلسفية.
(2) أو المصطلحات الأقل انتشارا على الألسنة نسبيا، كالبروميثوثية والإيروطيقا والجندرة، ولكنها متداوَلة مع جهودٍ مكثّفة لتعميمها والأخذ بها في ميادين الحياة اليومية.
(3) هذا إلى جانب ما يُراد توطينه من تصوّرات ومناهج ذات تأثيرات شاذّة على الإنسان والحياة، كالوجودية والعدمية والتفكيكية وغيرها.

إنّ انتشار هذا الكمّ المتدفّق من المصطلحات ذات التاريخ المعرفي الغربي، في الكتب ووسائل الإعلام في الدائرة الحضارية الإسلامية، وفي مواقع التأثير على صناعة الإنسان وثقافته، والمجتمع وتوجّهاته، يضع الفرد من جيل المستقبل أمام مشكلة متعدّدة الوجوه، من جوانبها الفكرية، فضلا عن المعيشية:
(1) الغربة بينه وبين أصحاب القلم.
(2) الاستلاب المعرفي نتيجة الانسياق وراء أطروحاتٍ ما، دون إدراك ماهيّتها.
(3) الاستغراق في محاولة استيعاب المطروح، دون جدوى، باستثناء حالة التخصّص.

وامتدّت الدوّامة إلى عبث أخطر بمضمونه ونتائجه، بقسم آخر من المصطلحات التي كانت منذ نشأتها جزءا من النسيج المعرفي والتاريخ المعرفي الذاتي، فرسخت على هذا الأساس في الاستخدامات الفكرية والأدبية والثقافية والمعيشية، مثل مصطلحات الدين والسياسة والأخلاق والقيم. وتظهر خطورة العبث في استخدام هذه المصطلحات الذاتية استخداما فلسفيا تغريبيا، أي وفق ما نشأ من مفاهيم لكلمات مقابلة لها في مسيرة التطوّرات التاريخية الغربية في نسيج معرفي غربي، وهذا الأسلوب المتّبع في نطاق الدعوات إلى مفاهيم المعارف الغربية، يصنع حالة تمزّق، بين:
(1) المدلولات الأصلية لمصطلحاتنا.
(2) مدلولات مزيّفة تُلصق بها في أطروحات متغرّبة.
(3) مدلولات منحرفة نشأت بفعل ردود الفعل الدفاعية.

هذه الوفرة الكميّة، مع تعدّد الخلفيات الفلسفية ومعاني المصطلح الواحد، مرتبطةٌ بعدم وجود تعريف للفلسفة نفسها، بحيث تلتقي عليه النسبة الأعظم من المشتغلين بها، أو كما يقول أستاذ الفلسفة محمد باداج مثلا ((حينما يعرّف الفيلسوف الفلسفة، إنّما يعرّف فلسفته الخاصة. وهذا ما يجعلنا أمام زخم هائل من التعاريف قد يصل عددها إلى عدد الفلاسفة أنفسهم))، ويعدّد لذلك أربعة أسباب هي غياب موضوع محدّد، وغياب منهج موحّد، وارتباط الفلسفة بالعصر، واقتناعات الفيلسوف الخاصّة(1).

توجد خطوط عامّة للفلسفة كعلم وما يراد منه وما الطرق المتّبعة فيه، ويلتقي على ذلك -أو يلتقي جزئيا- الدارسون للفلسفة جامعيا، ولكنّ ذلك لا يحلّ الإشكالية المرتبطة بالمصطلحات المذكورة وسواها. فهي إشكالية لا تقتصر على الجانب النظري، ولا تبقى آثارها داخل نطاق علم الفلسفة والمتخصصين في علومها.
إنّ المطروح من المصطلحات بخلفية فلسفية يشمل اتجاهات نظرية في الكتب والشبكة أو في القاعات الجامعية ومراكز الدراسة وميادين الحوار، مثلما يشمل منظومات معرفية ومناهج تطبيقية تؤثّر سلبا على منظومتنا ومناهجنا الذاتية، وتتجاوز الجوانب النظرية، فتدخل في صميم ميادين معيشتنا اليومية، وهي منظومات من الثابت استقراءً أنّها لم تنشأ لا نظريا ولا واقعيّا عن المعطيات في دائرتنا الحضارية المعرفية الذاتية، ولا تلبية لاحتياجاتنا فيها.
هذا ممّا يجعل المشكلة المحورية في التعامل مع هذه المصطلحات الفلسفية المنطلق مشكلة متعدّدة الوجوه:
(1) هي أولاً مشكلة المرجعية أو المرجعيات المعتمدة في الأطروحات الفلسفية، والمرجعية أو المرجعيات المعتمَدة في التعامل معها.
(2) وهي إلى جانب ذلك مشكلة المضامين المتعدّدة، المتضاربة من فيلسوف إلى آخر، ومن عصر إلى عصر وفي كلّ عصر على حدة، وهذا في كل ميدان من الميادين التي تناولتها الفلسفة بالبحث.
(3) وهي ناشئة بصيغٍ حملت بقوّة هوية أصحابها المعرفيّة والتاريخية مكانيا وزمانيا، ولكنّها تُطرح لدينا تحت عناوين تصوّرها وكأنّها تطوّر علميّ عالمي مشترك، يجب الأخذ به دون تحفّظ.

إنّ جوهر المشكلة كامن في تجاوز حقيقة الفلسفة نفسها ونشأتها وتطوّرها، ويمكن أن نراها أقرب إلى أنّها ((حكمةٌ مؤسَّسة على المعرفة؛ أي حكمة تستلهم من علوم ومعارف عصرها وتستند إليها)) وفق تعريف الفلسفة الذي اختاره الباحث د. عبد الرزاق الدواي(2)، منوّها بوجود هذا المعنى في موسوعة الفلسفة الفرنسية، هذا مع استيعاب كلمة العصر، على أساس كلّ عصر على حدة معرفيا وزمانيا ومكانيا. ويشير إلى هذا المعنى الناقد الماركسي الأمريكي فريدريك جيمسون، مستشهدا بغريمه فيلسوف ما بعد البنيوية فوكو، الذي عُرف بنقده الشديد لفلسفات الحداثة، أنّه عاد في أواخر حياته إلى كيل المديح لرائدها كانط بقوله إنّه كان ((أوّل فيلسوف يهتمّ بتشخيص مشاكل عصره أي مشاكل الساعة الراهنة)) وكان فوكو أوّل من طرح ما أسماه أنطولوجيا الحاضر(3).
وعند النظر في النسبة الأكبر من الأطروحات الفلسفية، نجد أنّ أصحابها كانوا -وإن غلب الأسلوب النظري على كثير من أطروحاتهم- يتعاملون مع الواقع حولهم، ومع الأفكار السائدة في مواطنهم، أو في حدود ما تصل إليه معرفتهم، فكانت أطروحاتهم خصوصيّة زمانيا وبيئيا، ولم تكن عالميّة، فضلا عن استحالة القول بديمومة صلاحيّتها.
ـــــــــــــــــــــــ
1- محمد باداج، "الفلسفة"، في موقعه "المنبر".
http://membres.lycos.fr/minbar/cours/philosophie.htm
2- د. عبد الرزاق الدواي، "عن ملامح الفكر الفلسفي في مطالع القرن 21"، مجلة "فكر ونقد"، العدد 1
3- فريدريك جيمسون، "دراسة حول أنطولوجيا الحاضر - Essay on the Ontology of the present"، تعريف بالكتاب تحت هذا العنوان في جريدة "البيان"، دبي، 15/8/1423هـ و21/10/2002م.


















تحرير المعرفة
(3) كل كلمة في واد

لا إشكاليةَ أو لا ينبغي أن نجد في دائرتنا الحضارية الإسلامية إشكاليةً ما في انفتاح على العالم ولا في تواصل ثقافي حضاري، ولكنّ الإشكالية تكمن مقابل ذلك في الدعوات والممارسات التي تربط مثل ذلك الانفتاح أو التواصل بموقفين متوازيين:
(1) جلد الذات.. والذات هنا هو الآخر في دائرتنا الحضارية الإسلامية.
(2) التسليم للآخر.. والآخر هنا هو الآخر في الدائرة الحضارية الغربية.

الأمثلة كثيرة، تجد التعبير عنها بصور متعدّدة، منها ما نقرأ بقلم الكاتب د. السيد ولد داده:
((العرب أضاعوا من قبل فرصا تاريخية ثمينة للاندماج في عصور الحداثة لتمسكّهم بالخصوصية القومية، وانجرافهم في اليطوبيا الوحدوية، والحلّ الوحيد المتاح أمامهم اليوم هو الاندماج في منظومة العولمة ولو في مواقعها الهامشية والاستعداد لدفع استحقاقاتها الباهظة))(4). لماذا؟.. هل هي عقوبة ذاتية؟.. ومن أين يأتي القرار بأنّ هذه حتمية ولا يوجد حلّ آخر؟..
ونقرأ كمثال آخر بقلم الكاتب والسياسي العراقي د. حسين الهنداوي:
((أمّا "التنوير" وعصره ما بين بداية السابع عشر ورحيل الثامن عشر (يقصد القرنين الميلاديين)، فهو ثورة ضد كلّ مزاعم الحقّ -الإلهي أو الوضعي- في تجاوز سيادة المجتمع المدني. وأهمّ منجزاته هي فكرة "العقد" حيث الوعي هو الجوهر وحيث لا نور إلا نور الحرية. هناك تنوير، كما يقول عمانوئل كانت، عندما يكون هناك، معا، استعمال كوني واستعمال حرّ واستعمال علني للعقل. وهناك تنوير، استنتاجا، عندما يكون هناك، ومعا، انتصار لمبدأ "العقد الاجتماعي" على مبدأ "الراعي والرعية"، وانتصار لمفهوم المرأة على مفهوم الحريم وانتصار للحرية على القوة، وللديمقراطية على الشورى، وللدستور على الأعراف، وللثقافة على السلطة، وللإنسانية على الأعراق، وللمواطن على الفحل))(5).
وللقارئ أن يعجب من هذا الاستنتاج التأويلي لكلام كانط نفسه، ثمّ من توظيف ذلك التأويل المنحرف لحملة تهجّمية كلامية على الدين الإسلامي بالذات، ثمّ كيف يحشر الكاتب في عبارات معدودة ما استطاع حشره من مفردات ذات علاقة وغير ذات علاقة بالدين، إنّما يمكن التأكيد أنّ الهنداوي لا ينفرد بهذا الأسلوب، فهو ما يتّبعه كثيرون ممّن حوّلوا التنوير الأوروبي إلى ظلمات، وابتكروا في الوقت نفسه لفظة الظلاميّة ليمارسوا ما يمارسونه من عداء للآخر.

لا يفيد مثل هذه الأساليب للتسليم تجاه الآخر والتقويض للذات، لا سيّما وأنّ فلسفات التنوير الغربي، وفلسفات الحداثة نفسها تجد النقد والنقض في أرض نشأتها الأولى، من جانب دعاة ما بعد الحداثة، الذين مضوا بها شوطا أبعد، ومن جانب آخرين لا يقبلون بما بعد الحداثة أيضا.
وليس مجهولا أنّ للتنوير والحداثة وما بعد الحداثة، تاريخا فلسفيا يمتدّ عدّة قرون، وتصل جذوره إلى الإغريق، فإذا انطلقنا جدلا من الاستجابة للدعوات الفلسفية المطروحة، وفق زعمٍ يقول إنّها من وراء الوصول إلى المعرفة والتقدّم، وخدمة الإنسان والمجتمع، والعقل المستنير والرابطة الإنسانية، وما إلى ذلك من عناوين مغرية من حيث صياغتها، فهل يوجد فيما نُشر من كتب ومقالات، وعُقد من مؤتمرات وندوات، بل وما يُعتمد من مناهج لتدريس الفلسفات الغربية في الجامعات، ما يمكن أن يعطي إجابة أسئلة عملية، يمكن أن تصدر عن فرد مسلم أو غير مسلم، ملتزم إسلاميا أو غير ملتزم، ممّن يوصف بالنخبة أو خارج نطاقها، حول التعامل مع تلك الدعوات الفلسفية، لتجزم تلك الإجابة وتحسم، للأخذ بفلسفة وترك أخرى، في الحياة المعيشية، اجتماعيا وثقافيا وسياسيا وفكريا؟

إنّ ادّعاء التجرّد في الدعوات إلى التعامل مع أي علم أو ظاهرة ممّا يؤثّر على الإنسان وميادين حياته، ادّعاء لا ينطبق على الواقع إلا نسبيا وفي حالات نادرة. وليست قيمة التعامل القويم مرتبطة بموقف تجرّد مطلق -مستحيل أو شبه مستحيل واقعيا- بل بهدف التعامل، وهنا يجب تحديد الهدف الذاتي المطلوب من التعامل مع هذه المصطلحات ذات الخلفية الفلسفية، مقابل:
(1) هدف معلَن للفلسفة، كتخصص جامعي على الأقلّ، هو الوصول إلى المعرفة.
(2) وهدف عملي، عند دعاة الحداثة وما بعدها والعلمانية وما يرتبط بها، هو -كلاميا على الأقل- توظيف المعارف المقرّرة عبر الفلسفة في خدمة الإنسان وسعادته.

إذ يستحيل التجرّد المطلق ينبغي التأكيد أيضا أنّ جوهر الإشكاليّة المشار إليها مع دعاة التوجّهات المنبثقة عن نظرات فلسفية غربية، لا يكمن في هذين العنوانين، المعرفة والسعادة، فلا أحد يحمل عقلا سويّا ويفضّل الجهل على المعرفة، ويطلب التعاسة بدلا من السعادة، بل يكمن جوهر الإشكاليّة في منطلق كلّ فريق منهم -وهم فرقاء متعدّدون جدّا- مهما ادّعى التجرّد، إذ يتجاوز بمنطلقه وبأطروحاته الجانب النظري للفلسفة كعلم من العلوم، ويتغلغل بها في الجوانب العملية الوظيفية.

إنّ الدعوة إلى طريقة فلسفية ما كالجدلية مثلا، لا تنحصر في أسلوب جدال، كما قد توحي اللفظة لغويا، بل تعني الأخذ بنهج شامل للتعامل مع الإنسان وحياته وبيئته عموما، كما يظهر مثلا من الجدلية الماركسية وأطروحاتها.
ما الذي يقرّر سلامة الأخذ بها لدينا وعدم الأخذ بغريمتها، أي الجدلية الهيجلية؟.
وإنّ الدعوة إلى طريقة فلسفية معيّنة كالبنيوية مثلا، لا يقف عند حدود استيعاب نصوص أدبية، بل يريد التغلغل -مثلا- في اتجاه تبديل تعاملنا مع النصوص القرآنية من أسلوب يقرّره القرآن نفسه، أي الله تعالى الذي أوحى به، إلى ما يمليه فلاسفة البنيوية.
ما الذي يجعل التجرّد متمثلا في الانطلاق من مقولات البنيويين لدراسة النصّ القرآني، وليس في الانطلاق من الآيات القرآنية في دراسة تلك المقولات؟.

ليس للجدل نهاية. أمّا على الصعيد التطبيقي العملي فالقاسم المشترك بين المغالطات في الأمثلة المذكورة وسواها، أنّ من يطرحها على دائرتنا الحضارية الإسلامية، بدعوى تحقيق التقدّم غالبا -وهذا بتقليد الغرب- يخلط قاصدا أو غير قاصد بين مسيرتين متداخلتين في الغرب، الذي تُنقل عنه مقولاته الفلسفية، هما المسيرة العملية للإنتاج والتقدّم، ومسيرة النظريات الفلسفية المتقلّبة.
وتتركّز نقاط التمايز والتداخل بين هاتين المسيرتين على:
(4) الإنجازات العلمية والتقنية والمادية من صنع مسيرة الإنتاج ومناهجه العمليّة وبحوثه العلميّة والتطويرية..
أمّا المسيرة الفلسفية فهي في الغرب حاضنة منظومة المعتقدات والقيم والأخلاق، وبالتالي الإبداعات الحقيقية.. وكذلك التقليعات والشطحات والانحرافات الشاذّة، في الحياة الأدبية والثقافية والفنية وفي ميادين العلاقات الاجتماعية.
(5) مسيرة الإنتاج العلمي والتقني والمادي، ترتكز على اتجاهات ومناهج عملية بأثر تطبيقي مباشر، كالرأسمالية، والشيوعية، وما شمل علوم الإدارة والتسويق وغيرها..
أمّا المسيرة الفلسفية فتركّز على أطروحات نظرية متقلّبة كالوجودية والحداثة، وما انبثق عنهما وضدّهما وبعدهما، وتركّز بالتالي على الإنسان وقيمه وأخلاقه ونظرته إلى الألوهيّة وإلى جنس الإنسان نفسه والطبيعة، وهذا ما يؤدّي إلى توظيف مسيرة الإنتاج، إيجابيا أو سلبيا، لتحقيق السعادة أو نشر التعاسة، ولجلب الخير والسلم والأمن، أو جلب الشرور والحروب والخوف، ولتحقيق التواصل الحضاري أو نشر هوّة التخلّف والتقدّم والفقر والثراء والترف والمجاعات.
(6) أصبح لمسيرة الإنتاج مع هيمنة المادة مراكزُ قوى احتكارية قادرة على توظيف ما يناسبها من الفلسفات، كالتسلّع والأنثنة، لتحقيق منافعها الذاتية، فجعلت منها أدواتٍ تؤثّر على أنماط المعيشة ومنظومة القيم لتحقّق أغراضاً مادية، واقعية لا فلسفية نظرية..
أمّا المسيرة الفلسفية فمن طبيعتها ما يجعلها تتقلّب بين ما لا يُحصى من المواقع المتناقضة والمضادّة لبعضها بعضا، فيرتفع تأثيرها حينا ويهبط حينا آخر، وهو في الوقت الحاضر تأثير محدود على مسيرة الإنتاج التقني والعلمي والمادي، وهو ما تشهد عليه مواقف كثير من المفكّرين والفلاسفة المعاصرين في الغرب.

ليس مجهولا ما انتشر من انتقادات لِما أوصلت إليه فلسفات الحداثة، ومن بين ذلك انتقادات دعاة ما بعد الحداثة، والتي ترمز إليها مقولة معروفة لكثرة ما يردّدونها عن فيلسوفهم فوكو "إن الأنوار التي خلقت الحريات هي التي خلقت السلاسل والأغلال أيضا"، فعلى افتراض وجود ما يستدعي المضيّ وراء مسيرة فلسفية غربيّة ما، نتساءل:
ما الذي يسوّغ الأخذ بما خلق السلاسل لا الأنوار فقط؟..
أم هل يمكن الأخذ بفلسفات نشأت بعدها (بعد عصر التنوير أو الأنوار) من أجل تحقيق تقدّم وتطوّر تحقّقا مع فلسفات نشأت قبلها؟..

يستحيل في إطار التعامل مع المسيرتين الأخذ في آن واحد بنهج عملي ونقيضه، كالرأسمالية والشيوعية، أو برؤية فلسفية ونقيضها، كالبنيوية والتفكيكية، بل لا بدّ من معايير للاختيار، على افتراض وجوبه جدلا.
يظهر ذلك للعيان بقوّة عند النظر على سبيل المثال في مواقف فريق لا يرى في أطروحات الغرب الفلسفية سوى ما يريد هو أن يراه، فيتبنّى اتجاها ما، متعصّبا له رافضا وجود سواه، كما يصنع الكاتب الشيوعي فؤاد النمري حين يقول مثلا:
((مصير الإنسان وأصله هما موضوعة الفلسفة وهما ذات المصير وذات الأصل لكلّ الأجناس ولكلّ الثقافات والأديان. أمّا تناول الموضوع فمنهاج المادية الدياليكتيكية هو السبيل الوحيد لكلّ بحث جادّ))(6).

إنّ التعامل مع المصطلحات ذات الخلفيّة الفلسفية لا يستقيم دون معايير وضوابط ذاتية. بل إنّ من بين أسباب نشأة توجّهات مختلفة ومتناقضة في عالم الفلسفة، ما كان نتيجة رؤية بعض الفلاسفة بمنظوره ومعاييره الذاتية لأطروحات آخرين، من السابقين أو المعاصرين، ليقبل من المطروح أو يرفض تبعا لذلك، ثمّ قد يطرح جديدا أو إضافة من جانبه.
إذا كان ذاك كذلك في نطاق دائرة معرفية غربية ذات جذور مشتركة، فمن باب أولى أن يكون في التعامل من داخل دائرتنا المعرفية مع الوارد من دائرة معرفية أخرى. علام يَحرم عند من يريدنا أن نأخذ ما لدى الآخرين دون جدال، أن نصنع ذلك بأنفسنا وفق معاييرنا لأنفسنا بهدف تحقيق نهوضنا؟..
لا غنى عن تثبيت ضوابط ومعايير ذاتية، ترتكز على محاور متعدّدة، ونأخذ هنا محورا واحدا منها كمثال، باعتباره الأوفر حظا من الجدال على صعيد الدعوة إلى الأخذ بالتوجّهات الفلسفيّة الغربية، وهو المحور المرتبط بالعلاقة بين الوحي والفلسفة.

ـــــــــــــــــ
4- د. السيد ولد أباه، "القومية والتحديث: الإشكال الملتبس"، موقع "البلاغ".
http://www.balagh.com/islam/2q0oq9i7.htm
5- د. حسين الهنداوي، "محنة النهضة والإصلاح والتنوير بالعربية"، موقع "الحوار المتمدّن"، 16/4/1426هـ و24/5/2005م.
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=37932
6- فؤاد النمري، "على هامش الفلسفة"، في صفحته الشبكية.
http://www.geocities.com/fuadnimri01




















تحرير المعرفة
(7) الكلمة والكلمة المنضبطة بالوحي

إذا وقفنا عند المعنى اللغوي الإغريقي لكلمة فلسفة، وجدناها لا تتجاوز في الأصل تعبير حبّ الحكمة أو طلب الحكمة. وأقرب معاني الحكمة لغويا هو المعرفة الصواب أو الرأي الصائب، وكان الفيلسوف المسلم ابن رشد رحمه الله، يستخدم كلمة الحكمة بمعنى الفلسفة.
إذا أردنا تحديد كلمة حكمة في نسيج تاريخنا المعرفي، لا نحتاج للرجوع بالضرورة عدّة آلاف سنة، أي إلى عصور الإغريق أو الرومان، كما يصنع الغربيون، ولا إلى أبعد من ذلك زمنا، أي إلى الصينيين والفراعنة والبابليين، كما يصنع آخرون، بل يكفي الرجوع إلى ما ورد في تعريف الحكمة على لسان إمام المحدّثين
البخاري (ت 256هـ و870م) أنّها ((الإصابة في غير النبوة)) في كلامه عن الحديث الصحيح الذي يذكر في رواية له عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضمّه إلى صدره ودعا له ((اللهم علّمه الحكمة))(7).

يؤخذ من ذلك تحديد مصدرين للمعرفة:
(1) الوحي بطريق النبوّة.
(2) طرق طلب الحكمة خارج نطاق الوحي.
هذا ما نفهمه أيضا من مواضع عديدة من القرآن الكريم تميّز بين الوحي والحكمة، مثل قوله تعالى:
{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}-129 البقرة-
{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} -34 الأحزاب-
إضافة إلى وصف الوحي نفسه بالحكمة:
{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ}- 39 الإسراء- فهي آنذاك الحكمة الإلهية المطلقة.
وهذا التمييز هو ممّا ينطلق منه ابن رشد في فلسفته عندما يقول رحمه الله:
((لمّا كانت شريعتنا هذه الإلهية قد دعت الناس من هذه الطرق الثلاث عمّ التصديق بها كل إنسان، إلاّ من جحدها كناداً (؟ الأرجح: ناكدا) بلسانه، أو لم تتقرّر عنده طرق الدعاء فيها إلى الله تعالى لإغفاله ذلك من نفسه. ولذلك خُصّ عليه السلام بالبعث إلى الأحمر والأسود، أعني لتضمن شريعته طرق الدعاء إلى الله تعالى. وذلك صريح في قوله تعالى: {ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}-125 النحل- وإذا كانت هذه الشريعة، حقاً وداعيةً إلى النظر المؤدّي إلى معرفة الحق فإنّا معشر المسلمين، نعلم على القطع أنّه لا يؤدّي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع. فإنّ الحقّ لا يضادّ الحقّ، بل يوافقه ويشهد له))(8).

نستخرج من ذلك الضابط الأول في التعامل مع الوحي والفلسفة وفق معايير معطياتنا الذاتية:
الفلسفة هي طلب الحكمة المتكاملة مع المعرفة اليقينية الموحاة، للوصول إلى المعرفة الصائبة، وفق طرق توخّي الصواب، المشروعة وحيا والمقرّرة اجتهادا مشروعا.

ولم يكن أوائل الفلاسفة الإغريق الذين أسّسوا الفلسفة الغربية ينكرون وجود إله، إنّما تعدّدت تصوّراتهم عنه، فكانت حدود أطروحاتهم الفلسفية تتّسع وتضيق على حسب ذلك التعدّد، ومن بين تصوّراتهم عن الألوهية قولهم بألوهيّة أبيرون، الأصل النهائي المطلق، الأبدي والأزلي، ومن ثمّ كانت ممارستهم لطلب المعرفة مرتبطة بمفهوم كلّ منهم للألوهية، ثمّ بمفهوم انتقال المعلومة أو عدم انتقالها، وكيفيّة ذلك، من الأصل النهائي الأزلي، إلى الإنسان.

ونستخرج لدائرتنا المعرفية الضابط الثاني للتعامل مع الوحي والفلسفة، وهو:
إنّ الوحي الإلهي هو الوحي من الله تعالى وفق مفهوم الألوهية في دائرتنا المعرفية، فلا يؤخذ عبر الفلسفة بما يتناقض، إنكارا أو تخطيئا، مع الثابت بالوحي، ورودا قطعيا ودلالةً قطعية.

ويرافقنا هذا الضابط في متابعة تطوّرات المسيرة الفلسفية تاريخيا، إذ نجد من ينكر الألوهية ابتداء، أو ينكر فاعليّتها في الوجود البشري، أو يحمل مفهوما يتناقض مع مفهوم الألوهية في دائرتنا المعرفيّة. وهذا التعدّد الواسع النطاق عند فلاسفة الغرب مرتبط ارتباطا مباشرا بالموقف الذاتي لكلّ منهم وبالبيئة التي عاش فيها كلّ فريق منهم على حدة، بدءا ببيئة الأساطير الإغريقية والرومانية عن الآلهة، مرورا ببيئة فَرض الإملاءات العقدية (دوجما) الكنسية لعدّة قرون في العصر الوسيط الأوروبي، انتهاء ببيئة هيمنة النظرة المادية في حياة الإنسان وعلاقاته البشرية ومع القوانين الطبيعية الكونية.

من هنا نستخرج الضابط الثالث في التعامل مع الوحي والفلسفة، وهو:
ضرورة النظر المنهجي في كلّ مصطلح ذي خلفيّة فلسفية، بمنظور الوحي ومعايير البيئة المعرفية الذاتية في دائرتنا الحضارية الإسلامية، وتطبيقها على مضمونه الناشئ في بيئة معرفيّة أخرى، ليتقرّر بذلك قبوله أو تعديله أو رفضه.

ليس المطلوب من كلّ فرد من أفراد جيل المستقبل أن يغوص في عالم الفلسفة لاستيعاب خلفيّة ما يُطرح بين يديه من دعوات وما يُستخدم فيها من مصطلحات، إلاّ أنّ كلّ من يعمل للتغيير للأفضل، ويجد نفسه أمام دوّامة المصطلحات، يحتاج إلى معلومات أساسية، تتوافر من خلالها أسباب القدرة على التمييز، ليتمكّن من التعامل المنهجي معها، إضافة إلى التعامل التلقائي القائم على البصيرة.
من ذلك التمييز ما بين:
(1) الفلسفة كعلم من العلوم له أركانه وفروعه وطرقه الأساسية.
(2) الأطروحات الفلسفية المتعدّدة، التي تخطئ وتصيب كما في علوم أخرى.
(3) الدعوات العديدة التي تعتمد منطلقاتٍ فلسفية وتستخدمها بأساليب عديدة، منها:
1- ما يقوم على اقتناع ذاتي، وهو يلزم صاحبه ومن يقتنع معه، ولا يلزم الآخر بالضرورة.
2- انتقائية تسويغية، تبرز جانبا وتتجاهل آخر على حسب اتجاه صاحب الدعوة ومنطلقاته.
3- تضليل محض.

الغموض في التعامل مع الفلسفة ناتج غالبا عن خلط كبير بين هذه العناوين الثلاثة، علم الفلسفة، وفروعه الاختصاصيّة، والطرق الفلسفية، ثمّ استخدام ذلك في عالم فوضى المصطلحات وأساليب الصراع.
علم الفلسفة قائم على خمسة أركان أساسية توصف لدى المتخصّصين بالعلوم الفلسفية التقليدية، مثل علم المنطق ونظرية المعرفة، وله فروع اختصاصيّة نشأت مع مرور الزمن، فهي نظرة الفلسفة في ميادين علمية أخرى، وهذا ممّا فتح الأبواب أمام نشأة خلفيّات فلسفية لأطروحات ومصطلحات تحمل في الأصل عناوين تلك الميادين، كالحتمية "التاريخية"، أو الواقعية "الثقافية"، ومن هذه الفروع مثلا فلسفة الثقافة وفلسفة التاريخ والفلسفة السياسية. أمّا الطرق الفلسفية فهي أساليب البحث الفلسفي في أي موضوع من المواضيع أو ميدان من الميادين. وهي موضع التطبيق في العلوم الأساسية الفلسفية وفي الفروع الاختصاصية، وتلعب بذلك دورا رئيسيا في ظهور نتائج متباعدة ومتناقضة على حسب ما يختار المشتغل في الفلسفة ويعتبره صوابا دون سواه.
ولكلّ طريقة فروع متشعّبة، ممّا يجعل الطرق الفلسفية تصل إلى العشرات أو المئات، كما يجعلها مع التعصّب المقترن باستخدامها، هي المصدر الرئيسي لِما نسمّيه شطحات فلسفية.
من الأمثلة على الطرق الفلسفية الرئيسية الجدلية والذرائعية والتفكيكية. أمّا فروع هذه الطرق الفلسفية فعديدة جدا فمن فروع الطريقة الجدلية مثلا الجدلية المادية والجدلية المنطقية والجدلية الهيجلية، نسبة إلى هيجل.
مَن يشتغل في الفلسفة اختصاصا يمارس أنشطة فكرية عبر النظر في موضوع من المواضيع
(1) منطلِقا من أحد أركان الفلسفة أو أكثر.
(2) ناظرا في ميدان أو أكثر من ميادين العلوم الأخرى.
(3) مستخدما طريقة أو أكثر من الطرق الفلسفية.

وهو في اشتغاله بالفلسفة ينقض حجج سواه، ويصيغ حججه الذاتية، ويسوّغ فرضيّة يراها، ويحدّد موقعه اتجاها، وقد يضع مصطلحات جديدة فيحدّد مضامينها، أو يطوّر مضامين مصطلحات سابقة، وربّما وصل بفلسفته إلى بُعد فكري فلسفي جديد، فيبرز اسمه في المسيرة الفلسفية التاريخية، ويشكّل محطة من محطّاتها.
وعلى ضوء ما سبق يمكن تصنيف ما اشتغل به الفلاسفة على امتداد ألوف السنين في إطار:
(1) تطوير طرق فلسفية وابتداع الجديد منها.
(2) تطبيق هذه الطرق على ميادين الحياة المختلفة.
(3) تبنّي اتجاهات شمولية كالعلمانية والحداثة والشيوعية والرأسمالية، بنظريات ذات أبعاد فلسفية كبرى، ومنطلقات ذات رؤى معتقدية، وتطبيقات شاملة لأكثر ميادين الحياة أو جميعها.

على هذه الطريق الطويلة عبر ألوف السنين، نشأت شطحات فلسفية كبيرة وصغيرة، ناتجة في الدرجة الأولى عن أربعة عناصر:
(1) طغيان نظرة تحتيم نتيجة فلسفية ما، مثال ذلك جدلية الحتمية التاريخية.
(2) طغيان ادّعاء حَصْر الصواب على رؤية فلسفية ما، مثال ذلك اعتبار التجريبية الحسّية (الإمبريقية) مصدرا وحيدا للمعرفة.
(3) طغيان الإكراه في تطبيق اتجاه فلسفي ما، مثال ذلك ما صيغ فلسفيا من إملاءات (دوجما) كنسية.
(4) طغيان الشذوذ في نظرة فلسفية ما، مثاله الفوضوية (وتتعلق بتغييب الدولة، ويوجد من يراها مظلومة عند تعميم اللفظة على مختلف الميادين) واللاعقلانية.

لهذه الشطحات الفلسفية آثارها في التعامل مع معظم المصطلحات ذات الخلفية الفلسفية، فيمضي فريق من العقلانيين إلى درجة تأليه العقل، أي التعامل مع العقل مصدرا للمعرفة تعامل التنزيه المطلق عن الخطأ، ويمضي فريق من التشكيكيين إلى درجة إنكار الوجود المحسوس، وفريق من التفكيكيين إلى درجة استهداف تقويض الفلسفة ذاتها.. وهكذا.
ونجد الشطحات الأكبر مفعولا منتشرة في دائرتنا المعرفية، وتتمثّل على سبيل المثال دون الحصر في انزلاق فريق من ناقلي المصطلحات الغربية ذات الخلفية الفلسفية إلى:
(1) التعصّب لِما يُنقَل تعصبا يتجاوز بصاحبه مَن ينقل عنهم أحيانا، فهو لا يرفض الآخر فقط، بل يمضي إلى الإسهام بنفسه في إقصائه واستئصاله، أو بتسويغ ممارسة من يمارس ذلك -على غرار ما كان في العهد الكنسي الثيوقراطي- وذاك في مقدّمة ما سوّغ الاستبداد في دائرتنا الحضاريّة الإسلامية.
والأمثلة على ذلك معروفة من حقبة ما سمّي العصر الذهبي للاشتراكية والقومية في البلدان العربية التي أخذت السلطات فيها بهما.
(2) المبالغة فيما يُنقل بتأويل مضامينه وتعميمها تأويلا وتعميما يتجاوزان مقاصد أصحاب الأطروحات الفلسفية الغربية أنفسهم، وذاك في مقدّمة ما يشوّه نقل أفكار فلاسفة التنوير الأوروبي، وتصويرها كما لو كانت جميعا أطروحات صالحة لسائر البشر في كلّ زمان ومكان، وعدم رؤية الجوانب المرتبطة منها بمواجهة تطوّر تاريخي أوروبي محدّد، ممّا يجعل بعضها صالحا لتجاوز حدود ميلاده، وبعضها الآخر لا يصلح لذلك.
والأمثلة على ذلك كثيرة أبرزها التعامل مع التنوير والحداثة الأوروبيين عبر المبالغة في إيجابيّاتهما والتهوين من سلبيّاتهما برؤية الأنوار دون السلاسل على النقيض مثلا من فيلسوف ما بعد الحداثة فوكو في مقولته المشهورة ((إنّ الحداثة التي خلقت الأنوار خلقت السلاسل أيضا))، وعلى النقيض عموما من الفلاسفة الغربيين أنفسهم، الذين يميلون إلى توطين فلسفاتهم زمانيا ومكانيا.
(3) الانتقائية والخلط بين مقولات منقولة، فإذا أراد ناقلها نشر الإلحاد مثلا نسبه إلى مَن تبنّى فلسفتهم في مقولات تَشي بذلك، متجاهلا مقولات أخرى، وإن أراد إنكار إلحادِهم لتسويق بضاعته الفلسفية المأخوذة عنهم، نسب إليهم مقولات تَشي بالإيمان والتديّن متجاهلا حقيقة معانيها ومتجاهلا سواها.
مثال ذلك -والأمثلة كثيرة- قول أحدهم ((فديكارت هو الذي بنى كلّ منهجه على فكرة الضمان الإلهي لتطابق الفكر والطبيعة الذي تقتضيه الحقائق العلمية نفسها. وتلميذه لايبنز، بنى كلّ نسقه الرياضي المحكم على الفكرة ذاتها. أمّا اسبينوزا، الذي ينعته الحوالي بداعية "وحدة الوجود"، فتقوم نظريته كلّها على الكشف عن البُعد الإنساني القيمي في الدين. ولم يكن فولتير محاربا للدين في ذاته وإنما للمؤسسة الدينية في عصره. أما كانط، فلا يتجاوز مشروعه كما يؤكد في كتاباته كلها "إعادة بناء الميتافيزيقا" في ضوء علم عصره، ونظريته في العقل العملي مبنية على مسبقات الدين التي لا سبيل لتصوّر أخلاق بدونها. أما هيغل فمشروعه يتمثل في تجسيد المضامين الدينية المطلقة في التاريخ الموضوعي من خلال الدولة بصفتها وحدة روحية كاملة. وحتى نيتشه نفسه لم يكن، إلا لمن يقرؤه قراءة سطحية ساذجة، معاديا للدين، بل هو أكثر الفلاسفة المعاصرين، كما بيّن العديد من المختصين فيه، تجذّرا في الأرضية الدينية. ولا يزال للدين دور مكين في المقاييس الفلسفية المعاصرة، سواء كمصدر إيحاء مباشر كما هو بارز في كتابات ياسبرز ولفيناس وريكور وميشال هنري، أو مصدر استكناه وتساؤل وتأثر غير مباشر، كما هو بارز في كتابات هايدغر وغادامير ودريدا))(9).
هذه الكلمات بقلم د. السيد ولد أباه، في مقالة نقدٍ حادّ (من كلماتها: الادّعاء.. التبسيط.. قصور.. الخرافات.. إلى آخره) لكتاب بقلم د. سفر الحوالي(10). والشاهد في تلك الكلمات بمعزل عن مضامين الكتاب ومضامين النقد، هو توظيف كلمة الدّين بمفهومها الغربيّ توظيفا يريد أن ينقل عن فلاسفة الغرب لدى قارئٍ بالعربيّة، رسخ لديه للدّين مفهوم صنعته الدائرة المعرفيّة الإسلامية، صورة أو انطباعا عنهم كما لو كانوا متدّينين بالمفهوم الذاتي للكلمة وليس بمفهومها الغربيّ.
إنّ الفلاسفة المذكورين أنفسهم يعتبرون الدين تصوّرا بشريا كسواه من التصوّرات، أي من إنتاج الفكر البشري، وهنا يمكن أن يرفضه أو يقبله بعضهم، وأن يأخذوا منه أو يتركوا، ليس في مجال تأويل النصوص كما يتردّد في الكتابات بالعربيّة أحيانا، بل في صميم الفكرة الدينية ولا سيّما الألوهية.
أمّا الدين بمفهوم الوحي والشمول فله في دائرتنا المعرفية مكانة أخرى، بغضّ النظر عمّن يلتزم به أو لا يلتزم. فإذا انطلق الداعية الشيخ د. سفر الحوالي من هذا المفهوم الذاتي للدين، أجابه الكاتب المدافع عن الفلسفة الغربية بالمفهوم الفلسفي الغربي للدين.. والفارق مع فلاسفة الغرب هو ما تقرّره سورة الكافرون وتختمه بالآية الكريمة {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}-6 الكافرون-

إنّ الفلسفة بحدّ ذاتها، وفق نشأتها الغربية وتطوّرها في الغرب، ليست هي مصدر الإشكالية في التعامل مع مصطلحاتها، فهي علم من العلوم، له إيجابيّاته كسائر العلوم وسلبيّاته أيضا، ولأصحابه شطحاتهم كسواهم، وتنتج عنه تبعا لذلك مقولات إيجابية وسلبية، نافعة وضارّة، مقبولة ومرفوضة، صالحة في مكان وزمان وغير صالحة في آخر، أو تقبل أحيانا التعميم إنسانيا وتاريخيا.
وتبعا لذلك ليس السؤال المطروح هو هل نتعامل مع مصطلحات ذات خلفيّة فلسفية، لا سيّما الخلفية الفلسفية الغربيّة، أم لا.
السؤال هو كيفية هذا التعامل، وضرورة أن يكون وفق معايير مستمدّة من دائرتنا المعرفية الحضارية، ومن تاريخنا المعرفيّ الحضاري، انطلاقا من معطياتنا الذاتية، وتلبية لاحتياجاتنا الذاتية، ليكون تعاملا منهجيا متوازنا، لا يخالطه استلاب معرفي حضاري، ولا يشوّهه تعصّب وخلط وانتقائية ومبالغة، ولا تغلب عليه روح الصراع مع الآخر في دائرتنا الحضارية لحساب ما يُستورَد من الآخر خارجها، بدعوى العالمية أو الإنسانية المشتركة أو التجرّد الفكري، فجميع ذلك معرّض للفساد والإفساد عند تعميمه كما لو كان يمثّل معاني مطلقة أو كان قابلا للتعميم بصورة مطلقة، وجميع ذلك يتناقض مع الانفتاح والتواصل الحضاريين ولا يخدم أيّا منهما.
ـــــــــــــــــــــ
7- الحديث في كتاب العلم من صحيح البخاري.
8- ابن رشد، "فصل المقال فيما ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال"، صفحة 3، في النسخة الشبكية في موقع الوراق.
http://www.alwaraq.com/index2.htm?i=85&page=1
أمّا ما أثير حول ابن رشد في الغرب وفيما نُقل عن الغرب، وزَعْمِ أخذه بالفلسفة على حساب الشريعة، فيمكن الرجوع بصدده إلى:
د. محمد عمارة، "ابن رشد بين الغرب والإسلام"، دار نهضة مصر، القاهرة، 1421هـ و2000م. أو إلى بعض مضمون الكتاب منشورا بعنوان "الموقع الفكري لابن رشد بين الغرب والإسلام"، في مجلة "إسلامية المعرفة"، العدد 2، 4/1416هـ و9/1995م، وكان د. محمد عمارة قد حقّق كتاب "فصل المقال فيما ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال" لابن رشد، ونشرته المؤسسة العربية في بيروت (الطبعة الثانية 1401هـ و1981م).
9- د. السيد ولد أباه، "حينما يجهل الناقد موضوعه.. سفر الحوالي في نقد الحداثة نموذجا"، جريدة "الشرق الأوسط"، لندن، 11/4/1426هـ و19/5/2005م. ويلفت النظر أنّ النقد نُشر في الجريدة، بعد حوالي عامين من ظهور الكتاب.
10- د. سفر بن عبدالرحمن الحوالي، "مقدّمة في تطوّر الفكر الغربي والحداثة"، منشور في موقعه الشبكي.
http://www.alhawali.com/index.cfm?method=home.showcontent&contentID=2




















تحرير المعرفة
(5) الكلمة بين القيود والضوابط

منذ أكثر من مائة عام لا تنقطع في عالم الفلسفة ظاهرة نشر النبوءات المتشائمة، بما يشمل مختلف الميادين، واشتهرت من بينها نبوءة موت الفلسفة نفسها، التي ظهرت في الستينات من القرن الميلادي العشرين، على لسان الفيلسوف الألماني هايديجّر -وتابعه آخرون- وتعبّر عن نبوءته كلمات له نشرتها مجلة دير شبيجل الألمانية عامَ وفاته، وجاء فيها:
((لن تستطيع الفلسفة إحداثَ تأثير مباشر على الوضع العالمي الراهن، لا يسري هذا على الفلسفة فقط، بل يسري أيضا على المدارك والرؤى البشرية. لن يستطيع إنقاذَنا إلاّ إله. لم يبق لنا سوى إمكانية إعداد أنفسنا فكراً وشعوراً لظهور الإله أو غيابه عند وقوع الواقعة (القيامة)، واقعتنا تحت أنظار إله غائب))(11)، وكان هايديجّر من محطّات نشأة الفلسفة الوجودية.
وتأتي هذه النبوءة بين نبوءات أخرى بنهاية كلّ شيء، "التاريخ، والصراع الطبقي، والإله، والأديان، والأخلاق والإنسان، والغرب.." وغير ذلك ممّا عدّده فيلسوف التفكيك الفرنسي دريدا متهكّما على المتنبّئين به، في كتابه "القيامة - Apokalypse"(12).
إلاّ أنّ شهرة نبوءة هايدجّر لا تُطرح من زاوية المبالغة التشاؤميّة قدر طرحها بمنظور النقد لوضع الفلسفة نفسها، ولضعف دورها على أرض الواقع. وشبيه ذلك ما يعبّر عنه كثيرون سواه، يعدّد بعضهم الكاتب الفلسفي عزيز لزرق في بحث له يطرح فيه السؤال عن ((مدى حضور وحدود تأثير الفلسفة في مجريات التحوّلات العالمية)) وعن ((قيمة الفلسفة)) وهي تساؤلات يثيرها هاجس نهاية الفلسفة على وجه التخصيص(13).

إنّ هذه التساؤلات هي في حصيلتها تعبير عن الشكّ الفلسفيّ في المسيرة التاريخية للفلسفة في إطار مسيرة التطوّرات البشرية. ونسجّل بإيجاز شديد عناوين رئيسية لأهمّ تقلّبات فهم الفلسفة لنفسها منذ نشأتها الأولى:
(1) بدأت في العصر الأوروبي القديم (الإغريقي) أطروحات تفسير الوجود، ووضع البذور الأولى للفلسفات المادية، إلى جانب طلب الحكمة والأخلاق، ووضع البذور الأولى لعدد من طرق الوصول إلى المعرفة فلسفيا.
وفي ذلك العصر دخل الفلاسفة في نزاع مع تصوّرات دينية إغريقية وتطوّرات سياسية جارية، انعكس في محاكمات وإعدامات وتشريد، مثلما انعكس في التنظير الفلسفي للواقع الطبقي القائم اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا.
(2) وظهرت في العصر الأوروبي الوسيط (الكنسي) البنية الهيكلية الأولى للفلسفات التي تعتمد الطرق المثالية والمادية مع ظهور ما يُسمّى الفلسفة المدارسية الكنسية، وانتهت هذه الحقبة إلى ظهور فلسفات رهبانية وأخرى بذرت البذور الأولى لمرحلة التنوير التالية.
وفي ذلك العصر بدأت النزاعات الفلسفية-الكنسية، ثمّ استقرّ توظيف الفلسفة للاضطهاد الكنسي، حتّى ظهرت البذور الأولى للتمرّد.
(3) وتشعّبت في العصر الأوروبي-الغربي الحديث (المادي) مسيرة الفلسفات وتعدّدت طرقها، حتى تجاوزت ما يمكن حصره، ومن عناوينها مثلا:
النقدية التشكيكية – المثالية الذاتية – المثالية التاريخية – المثالية العاطفية - المثالية الوضعية - الوضعية – الجدلية – الجدلية التاريخية – المادية الجدلية - المادية الآلية – الفلسفة التاريخية - فلسفة الظواهر – الواقعية النقدية – النقدية الكونية – واقعية الأنسنة – الوجودية – الوضعية الجديدة – التحليلية اللغوية – الذرائعية – الواقعية الجديدة - الماركسية الجديدة.
وقد بدأ هذا العصر بتمردّ فلسفي تنويري على محور الإنسان، وانتشر في ميادين الحياة الفكرية والعلمية والأدبية والفنية، وتلاه التمرّد الفلسفي المادي مرتكزا على الثورات العلمية والتقنية، وهو ما تفاقم إلى درجة يعبّر عنها قول إدموند هسّرل ((لقد ضربت الوضعية عنق الفلسفة))(14)، حتّى وصلت المسيرة الفلسفية إلى أطروحات "الموت" و"النهايات" و"القيامة"، ثمّ دخلت معمعة ما بعد الحداثة، ولم تحطّ رحالها على وجهة ثابتة بعد.

يقول د. عبد الرزاق الدواي ((لقد كانت المذاهب والمدارس والتيّارات الفلسفية في ذروة حيويتها وعطائها تتناظر وتتساجل وتتصارع: الفنمولوجيا والوجودية والشخصانية في مواجهة الماركسية، والماركسية في مواجهة الوضعية المنطقية والوجودية والبنيوية، والوضعية المنطقية في مواجهة المذاهب "الميتافزيقية" قاطبة، والفلسفة البنيوية في مواجهة الوجودية والماركسية معـا، والقراءات الجديدة للماركسية وللفردية تتواجه وتتنافس فيما بينها إلخ…))(15).
في غمرة هذا التعدد الكبير والتناقض المتواصل على امتداد الحقب الثلاث وتقلّباتها التاريخية زمانيا ونوعيا، كان السؤال المحوري عن مهمّة الفلسفة هو الحاضر باستمرار، ولم يجد جوابا، رغم كثرة الأجوبة، فكثرتها تكمن وراء التعدّد والتناقض.
وإذا أردنا التنقيب عن قاسم مشترك -وليس عن هدف واحد متفق عليه- فقد نجده متصلا ما بين:
1- عميد فلاسفة الإغريق أرسطو(ت 322 ق.م) رأى طلب المعرفة هدفا قائما بذاته.
2- وعميد فلاسفة التنوير كانط (ت 1804م) رأى أن تكون الفلسفة قادرة على تحديد مصدر المعرفة الإنسانية، وامتدادا لاستعمال الممكن والمفيد لكلّ معرفة، وتعيين حدود العقل.
ويلتقي ذلك من المنطلق الفلسفي المنطقي العقلي، مع ما يقول به:
3- أشهر فلاسفة الطريقة المثالية، أو داعية المثالية المطلقة في العصر الحديث هيجل(ت 1831م) عندما يشترط على الفلسفة الاقتصار على التعبير عن العالم الفعليّ القائم دون طرح تصوّرات مستقبلية وعوالم خيالية ظنيّة.
كما نجد كثيرا من الفلاسفة المحدَثين، ومنهم فريق من فلاسفة ما بعد الحداثة، يلتقون في البحث عن مهمّة الفلسفة عند محور المعرفة بما هو قائم موجود، وقد تتعدّد أساليب التعبير بعد ذلك:
4- كامو(ت 1960م) مؤلّف كتاب "الإنسان المتمرّد"، يقول: المشكلة الجادّة حقّا هي إجابة السؤال ما إذا كانت الحياة تستحقّ أن تُعاش(16).
5- أدورنو(ت 1969م): ((ليست مهمّة الفلسفة إيضاح ما هو غير مفهوم، بل فهم اللامفهوم))(17).
6- دولوز(ت 1995م): ((الفلسفة في شكلها الصارم هي الفرع الذي يهتمّ بخلق المفاهيم))(18).
7- فوكو(ت 1984م): ((مهمة الفلسفة هي تشخيص الحاضر في معالجة همومه وقضاياه الأساسية))(19).
وفي الساحة العربية مضى فريق من الدارسين للفلسفات الغربية والمشتغلين بالفلسفة إلى مواقف مشابهة، ونكتفي بمثالين على ذلك بمنظورين مختلفين:
8- بديع الكسم: ((إنّ الفلسفة هي البحث عن أكثر الحقائق أهميّة في حياة الإنسان الروحية))(20).
9- د. عبد الرزاق الدواي: ((لا نظنّ أنّ مهنة الفيلسوف في المستقبل ستبقى هي مواصلة للتقليد السقراطي أي الاستمرار في البحث عن الحقيقة عن طريق التأمّل والحوار وطرح الأسئلة، ونعتقد أنّـها ستكون بالأحرى محاولات دؤوبة لفهم واستيعاب التحوّلات الكبرى ودلالات إنجازات البحث العلمي على الصعيد العالمي وآثارها على أحوال الوضعية البشرية، وذلك لغاية إعادة سبك وصياغة وإنشاء مفاهيم حديثة للمساهمة في التنوير والتوعية بقيم الحكمة الإنسانية الجديدة. ولا نبتدع جديدا عندما نكرّر القول بأنّ لكل عصر حكمته، وحكمة مطالع القرن الأول في هذه الألفية الثالثة كما بدأ يتراءى لنا الآن هي العودة مجدّدا إلى الإنسان وإلى الأخلاق وإلى السياسة ولكن اعتمادا على تعدّد المناظير كقيمة جديدة))(21).
والجدير بالتنويه هنا عدم وجود تعارض بين تعريف الحكمة "الإصابة في غير النبوّة"، والحكمة المتبدّلة من عصر إلى عصر، وفق تعبير د. الدواي، بمعنى المعرفة بطريق الفلسفة، إنّما نعتقد بأنّ الأصحّ في وصف اتجاه الريح الفلسفية حاليا القول العودة إلى الله وإلى الإنسان والأخلاق والسياسة.

لقد استهدفت الفلسفة تفسير الوجود الكوني والإنساني.. والأسئلة المطروحة الآن تمسّ مشكلات من قبيل الاستنساخ البشري.
وكانت الأخلاق مطلبا من مطالب الحكمة عبر الفلسفة.. وبلغت منظومة القيم الغربية الآن تقنين الشذوذ الجنسي والسعي لتعميم مفاهيم "الجندرة" عالميا.
واتخذت الرياضيات مكانة مركزية في النظريات الفلسفية.. وتكاد ثورة الاتصالات تتجاوز أسس المطروح فلسفيا حولها.
وأغرقت الأنشطة والشطحات الفلسفية عوالم الأدب والفنّ والثقافة.. ووجدت هذه العوالم نفسها في جنائز تأبين الإنسان والنصّ والمؤلّف والفكرة مع الدالّ والمدلول في مطحنة البنيوية والتفكيكية، إضافة إلى ما كان من عبثية وفوضويّة ولاعقلانية، حتّى غابت كلمات الأدب والفن والثقافة نفسها ما بين أشباح حروفها.

أين الخلل؟..
ألا يكمن جانب رئيسي من المشكلة في الساحة العربية في حقيقة استخدام الفلسفة -لا دراستها وتدريسها علما من العلوم فحسب- لفرض ما يُطرح بخلفيات فلسفية من مناهج وتصوّرات؟.

إنّ الخلط بين الفلسفة علما، والممارسات باسم الفلسفة واقعا، هو الخلل الأكبر الذي لا يتحقّق اجتنابه دون الحسم في التعامل مع الفلسفة وأطروحاتها، في حدود علم تفسير للواقع وما يرتبط به، ورفض التعامل معها أو استخدامها أداةَ تغيير، بدلا من أداة من أدوات التفسير والمعرفة.

ومن المنطلق الإسلامي نقول:
1- إنّ للفلسفة الغربية تاريخها ومنطلقاتها المعرفية التاريخية، وتطوّراتها المتشعّبة، وأطروحاتها المتناقضة، ومدارسها القديمة والحديثة.
2- جميع ذلك يمكن طرحه بمنظور الدراسة التاريخية، وبموازين وَعْينا المعرفي الذاتي، ومعايير دائرتنا المعرفية الذاتية، مثل دراسة الجوانب الأخرى من تاريخ الغرب، أو تاريخ العالم، للمعرفة والعبرة.
3- هذا في حدود تثبيت الفلسفة علما من العلوم، لتفسير الواقع لا صنعه.
4- مع تثبيت الانطلاق من معطياتنا الذاتية في صياغة مصطلحاتنا الذاتية، ومناهجنا الذاتية.
5- لتكون الاستفادة من التعرّف على الآخر، والتواصل معه، سلوكا علميّا منهجيا، منضبطا بضوابطنا الذاتية.
6- دون أن يطغى علم الفلسفة على مصادر صياغة منظومة قيمنا، ومناهج حياتنا، ومصادرنا في صناعة الإنسان في دائرتنا الحضارية الإسلامية.
ـــــــــــــــــــــــــ
11- مجلة "دير شبيجل" العدد 23/1976م.
12- جاك دريدا-Jacques Derrida ، "القيامة - Apokalypse"، دار باساجن – Passagen، فيينا، 2000م و1421هـ، بالألمانية، وظهر الكتاب بالفرنسية عام 1983م و1403هـ.
13- عزيز لزرق، "من نهاية الفلسفة.. إلى نهاية التاريخ"، مجلة "فكر ونقد"، العدد 22.
14- نقلا عن عزيز لزرق، "من نهاية الفلسفة.. إلى نهاية التاريخ"، مجلة "فكر ونقد"، العدد 22.
15- د. عبد الرزاق الدواي، "عن ملامح الفكر الفلسفي في مطالع القرن 21".
16- نقلا عن بديع الكسم، "الحقيقة الفلسفية"، موقع "معابر".
http://maaber.50megs.com/sixth_issue/perenial_ethics_2.htm
17- نقلا عن عدنان المبارك، "مفهوم الحداثة عند تيودور آدورنو"، جريدة "الزمان"، 7/11/1423هـ و10/1/2003م.
18- نقلا عن عمر مهيبل، "الفلسفة ترحال"، مجلة نزوى، مسقط، العدد 26، 1/1422هـ و4/2001م.
19- نقلا عن "دراسة حول أنطولوجيا الحاضر".
20- بديع الكسم، "الحقيقة الفلسفية".
21- د. عبد الرزاق الدواي، "عن ملامح الفكر الفلسفي في مطالع القرن 21".













تحرير المعرفة
(6) الكلمة في نفق الإلحاد

من المصطلحات ما يُطرح عادةً دون كشف خلفيّاته وأبعاده، كالإمبريقية، ويقابله بالعربية التجريبية الحسّية. وكلمة تجريبية تعيد المرء في دائرتنا المعرفية تلقائيّا إلى ما كان عليه علماء المسلمين، وأنّ التجارب كانت أمرا مألوفا لديهم في علوم الفيزياء والفلك والطبّ وسواها، فلا إشكاليةَ بين عقيدتهم وتحصيل العلم بطريق التجربة. بالمقابل نجد فريقا من الغربيّين أخذ بمصطلح الإمبريقية مع حَصْر تحصيل المعرفة بها، ليس في ميادين العلوم الطبيعية فقط، بل بتعميم ذلك على العلوم الإنسانية ليشمل مثلا إنكار تثبيت القيم والأخلاق عن طريق مصادر غيبيّة، وبالتالي رفض الوحي الربّاني، ويوجد من ينهج هذا النهج عندما يستخدم تعبير إمبريقية في كتاباته بالعربية.

الإشكالية الأولى التي تقوم عليها مقولات الفصل بين الدين والعلم، الأبعد شأنا وتأثيرا بكثير من مقولة الفصل بين الدين والدولة، هي إشكالية مصطلحات عبر إساءة استخدامها، بغض النظر عن مضامينها.
وقد انتشر استخدام كلمات فلسفية غربية عديدة أخرى، لها جذورها المعرفية الذاتية، ثم انحرف استخدامها لا سيما في الساحة العربية في خدمة مقولة وجود انفصام ما بين الدين والعلم، وبتعبير أصح لإيجاد هذا الانفصام دون أساس يقوم عليه، حتى في التاريخ الفلسفي الغربي نفسه.
من هذه الكلمات:
لوجوس/ Logos: لها لغويا معانٍ متعدّدة، العقل والعلم والنطق واللغة والمبدأ والمطلق والجوهر. وفلسفيا كان أوّل من استخدم كلمة لوجوس على الأرجح استخداما يتصل بالألوهية هيراقليطس- (ت حوالي 475 ق.م)، منها رمز للألوهية، وأصبح كلمةً محوريةً عبر مختلف الفلسفات الغربية، بما فيها الكنسية، ووردت مرة واحدة في مطلع "إنجيل يوحنا" (أو المنسوب إليه ففيه ذكر أحداث جرت بعد وفاته)، وأصبحت خلال القرون الأربعة التالية من بعده، أساس نشوء مقولات التثليث، وأول من أسّس لذلك الفيلسوف اليهودي فيلو(ت 40م) من الاسكندرية.
ما الذي يدفع إلى استخدام هذه الكلمة إذن من جانب أقلام فلسفية عربية واعتبارها مدخلا إلى فهم القرآن الكريم، كما يصنع آركون مثلا؟..
إيبيرون/ Apeiron: معناها لغويا اللامحدود. وفلسفيا الأصل الأزلي والأبدي. وهي عنوان تصوّر إغريقي محوريّ عن الإله. أوّل من قال إنّ إيبيرون أصل الوجود كان على الأرجح الفيلسوف وعالم الفلك آناكسيماندروس (ت حوالي546 ق.م)، وأصبحت في فترة متأخرة مرتكزا لطرح نظرية "الأديان الطبيعية"، تعبيرا عن مقولة إن الدين تصوّر من صنع البشر.
هل يمكن إذن استخدام كلمة "الدين" بالمعنى الفلسفي الغربي، في كتابات فلسفية عربية، دون أن يكون من وراء ذلك دافع إنكار الوحي باعتباره محور مفهوم كلمة الدين في دائرتنا الحضارية الإسلامية؟..
روح العالم/ Nous: وكان أناكساجوراس (ت 428 ق.م) أوّل من استخدم تعبير Nous الإغريقي بمعنى روح العالم، لتفسير الوجود، فقال إنّ روح العالم أوجدته من عناصر عديدة جداً ومتناهية في الصغر (النظرية الذرية لاحقا) بمواصفات مختلفة عن بعضها بعضا. وقد وُجد من يستخدم تعبير روح العالم بهذا المعنى أيضا حتى العصر الحديث في المسيرة الفلسفية الغربية، مثل جورج فيلهلم فريدريك هيجل (ت 1831م/ 1247هـ).
وروح العالم مثل لوجوس وإيبيرون من الصيغ العديدة التي ترمز إلى تصوّرات فلسفية عن الألوهية، أنّها قوّة خارقة، والأصل المطلق للموجودات، والسبب الأوّل في سلسلة فرضيات السببية، وما شابه ذلك. ويُطلق وصف الأديان الطبيعية في الفلسفة الغربية تبعا لذلك على التصوّرات البشرية القائلة بوجود إله أو آلهة (قوى خارقة) دون الاعتقاد بالوحي، وهذا ما يجعل ضروريا تثبيت قاعدة {لكم دينكم ولي دين} عند استخدام كلمة الدين انطلاقا من ذلك المفهوم الفلسفي الغربي، وصياغة مقولات بناء على ذلك، دون الإشارة إلى تناقضه مع المفهوم السائد في دائرتنا الحضارية.

لقد كانت علاقة الفلسفة بالدين في العصر الإغريقي هي العلاقة بالأساطير الإغريقية عن الآلهة، فكانت هذه الأساطير جزءا من الفلسفة في كثير من الأحيان، وفي حالة الخروج عنها -كما كان مع من طرح نظريات فلكية طبيعية خالفت المألوف آنذاك- بدأ الصدام وكان يفضي إلى النفي أو السجن أو الإعدام.
وبقيت فكرة الألوهية سائدة عند النسبة الأكبر من فلاسفة الإغريق، ولكن كانت فكرة مضطربة، وحافلة بالتناقضات والاختلافات، ما بين الأصل اللانهائي، والعقل المطلق، والسبب الأوّل، وجوهر "لوجوس" الثابت المتحوّل، وغير ذلك ممّا لا يمكن الاستناد إليه، مثلما لا يمكن الاستناد إلى فلاسفة الإغريق أو معظمهم في اتجاه الإلحاد بإنكار الألوهية، وهو ما لا يبدو واضحا (أو هو محاط بالغموض الضبابي عمدا) لكثير من المتعاملين مع الفلسفات المعاصرة، لا سيّما في الساحة العربية عندما يؤكّدون حينا الإلحاد في الفلسفات الغربية وينفونه حينا آخر.
وبدأت مسيرة الفلسفة الكنسية بأطروحات الفيلسوف اليهودي فيلو (ت 40م) ثم انتقلت إلى فلسفة الآباء الرسوليين والكنسيين، وفرضت نفسها مع اندماج الكنيسة والسلطة الرومانية، وتطوّرت عبر محطات الأسقفيات الخمسة الأولى فالفلسفة المؤسساتية، فالحقبة المظلمة فلسفيا، على أساس الإملاءات الكنسية/ الدوجما، لترثها الفلسفة المدارسية، وكانت بداية تمرّد كنسي، أوصلت إلى ما يعرف بالفلسفة التومية التي أسّسها توما الأكويني (ت 1274م و672هـ)، والأكويني نسبةً إلى مسقط رأسه في بلدة أكوين، الذي نقل عن ابن رشد ترجمة فلسفة أرسطو وعدّلها.
روجر باكون (ت 1292م/ 691هـ) أول من يستند إليه الحداثيون، إذ قدّم أطروحات تفصل بين التعاليم الكنسية والفلسفية، ولكن مع التأكيد أنّ النظر العقلي في التعاليم الدينية يدعمها ولا يعارضها.
والمهم في هذا الاستعراض التاريخي أن الحقبة التالية التي شهدت التمرّد على الفلسفة الكنسية اتخذت صورة منافية للشائع عبر كتابات فلسفية عربية، بصدد أنّها كانت الأساس لبذور النهضة العلمية التقنية والمادية.

يعبّر عنوان التمرّد عن السمة الغالبة على الفلسفات الغربية بعد حقبة الفلسفة الكنسية. وللتمرّد إيجابيات تظهر في البداية غالبا، وسلبيّات تظهر لاحقا. فما يثير التمرّد عادة هو رفض القيود على الإنسان والفكر، فتظهر إيجابيات التمرّد بقدر ما يلبّي هذه الحاجة، أمّا عندما يتجاوز تلبيتها ليفرض بدائل ما، تصوغها ردود الأفعال على السابق المرفوض، فلا بدّ أن توصل الشطحات الفلسفية إلى قيود بديلة، وتلك أزمة محورية في الفلسفات الغربية الحديثة.
وقد أخذت مسيرة التمرد أطروحات ركّزت على الإنسان والثقافة، ثم ما حمل تدريجيا عنوان التنوير، وأغلب أطروحات التنوير ما جعل العقل محورا أساسيا دون الاصطدام مع الموروث فلسفيا، أي الفلسفة الكنسية.
قبل تلك الحقبة كانت قد بدأت النهضة العلمية والتقنية الأوروبية، فلم تظهر أطروحات الحداثة إلا بعدها، واقترنت بازدياد هيمنة المادة على الفلسفة، واضمحلال مفعول الفلسفات الأخرى المتناقضة معها، وهو ما بلغ ذروته في القرن 19م/ 12هـ، ورافقه ظهور الاتجاهات الفلسفية الكبرى والمناهج الشمولية، وانبثقت منها أطروحات الإلحاد.. أي بعد أن أخذت المسيرة العلمية والتقنية مداها بفترة زمنية طويلة نسبيا.
لم يكن العنصر الحاسم في الفلسفات الإنسانية والتنويرية وفي المسيرة العلمية الأولى عنصر تشابك أو انفصام ما بين محوري الدين والعلم، بل كان لانطلاق فترة النهضة الأوروبية معطيات عديدة أخرى متكاملة مع بعضها بعضا، منها:
معطيات ثقافية.. إذ بقي الإنتاج الثقافي محدودا في نطاق ما رسمته الفلسفة الكنسية، فغاب على الصعيد الأدبي، وبقي على صعيد الفنون في حدود هندسة الكنائس والأديرة وما اضمحلّ من موروث العصر القديم الإغريقي.
معطيات علمية وحضارية.. نتيجة الاحتكاك بالحضارة الإسلامية المزدهرة المجاورة، عبر الأندلس، وفي جنوب أوروبا، وأثناء الحروب الصليبية، فقد كشف التخلّفَ الأوروبي الشديد عن المسيرة العلمية والحضارية البشرية.
معطيات اجتماعية أوروبية.. ساهم فيها ظهور دويلات عديدة بحكم ذاتي، وعلاقات التنافس والتوازن بين الأمراء الإقطاعيين والسيطرة الكنسية، وسعى بعض هذه الدويلات للتميّز في الميادين الأدبية والفنية، تميّزاً رافقته أطروحاتٌ فلسفية مناقضة لِما ساد وفق الفلسفة الكنسية.
معطيات اقتصادية.. إذ شهد الإقطاع الزراعي تطوّرا كان من أسبابه ازدياد كثافة السكان بعد القرن 14م/ 8هـ، الذي شهد تناقصا شديدا بسبب وباء الطاعون، كما ازدهرت الحركة التجارية تدريجيا، وساهم فيها عدمُ وجود حدود سياسية ثابتة.
معطيات سياسية عسكرية.. ففي حقبة السيطرة الكنسية لم تنقطع الحروب الأوروبيّة، وظهرت امبراطوريات ودويلات صغيرة عديدة واضمحلّت، إضافة إلى الحروب الصليبية، التي استهدفت أرضا إسلامية ولكن انطوت أيضا على الحملات العسكرية ضدّ طوائف مسيحية.
معطيات أحداث تاريخية.. فإضافة إلى الصدمة التي أحدثتها حصيلة الحملات الصليبية، كان ظهور الدولة العثمانية وسيطرتها على جنوب شرق أوروبا بمثابة المقدّمة للحدث التاريخي الأبرز للعيان بالمنظور التاريخي الأوروبي، وهو سقوط الدولة البيزنطية.

إنّ ولادة فلسفات في الميادين الإنسانية والفكرية والثقافية على وجه التخصيص، تتمرّد على الفلسفة الكنسية المسيطرة كانت جزءا من تمرّد محتّم على الجهة الحاكمة على امتداد قرون عديدة، والمسؤولة عن المعطيات المذكورة وسواها.
عند التأمّل بالمعايير الغربية في حقبة النهضة والإنسانية الأوروبية لا بدّ من التساؤل عمّا تستند إليه المقولة الشائعة في كثير من الكتابات العربية بصدد أنّ حركة الحداثة المتأخرة زمنيا في أوروبا كانت هي محرّك "قيم" النهضة الأوروبية، وهي مقولة تنبثق عنها دعوات الأخذ بالأطروحات الغربيّة في الحداثة، أي القول بضرورتها لتحقيق التقدّم والتطوّر والتحديث في المنطقة الإسلامية.
إنّ ممّا يتناقض بشدّة مع هذه المقولات حقيقة أنّ التمرد "التنويري" على الكنيسة بدأ بمفعول "ديني" وليس بمفعول أطروحات تناقض الدين بحدّ ذاته، فقد واجهت مسيرة السيطرة الكنسية مظاهر التمرّد من منطلقٍ ديني لجأ على الدوام إلى أساليب التعليل والتأويل الفلسفية، ممّا أدّى إلى الانشقاقات وظهور طوائف عديدة، وانطوى على صدامات عنيفة مع معارضة داخلية -إذا صحّ التعبير- في فترة ترسيخ الفلسفة الكنسية، باتجاهيها الكاثوليكي والأورثوذوكسي، في الكنيستين الرئيسيتين، الغربيّة والشرقية. ثم كانت الحركة التي توصف بالإصلاح الكنسي في مطلع القرن 16م/ 10هـ، وقد أفضت إلى:
نشأة البروتستانتية التي أسّسها مارتن لوثر (ت 1546م/ 953هـ)، وقد واجهتْها الكنيسة الكاثوليكية في روما بالقوّة العسكرية فوقعت حروب ونزاعات عديدة، ولم تمنع من انتشارها في وسط أوروبا في الدرجة الأولى.
وشهدت بريطانيا أيضا عدّة محاولات في اتجاه مشابه للبروتستانتية خلال القرن 16م/ 10هـ، ووجدت القمع بشدّة من جانب العائلة المالكة التابعة للكنيسة الكاثوليكية في روما، إلى أن ظهرت الكنيسة الإنجليكية بسبب خلافٍ على زواج ملكي، واستقرّت في القرن 17م/ 11هـ.
إضافة إلى محاولة إصلاح داخليّ كاثوليكي ابتداء من عام 1540م/ 947هـ، حتى القرن 18م/ 12هـ.


























تحرير المعرفة
(7) الدين يحرّر العلم والمعرفة

إذا كان تحرير العلم مرتبطا بتحرير الإنسان، فمن الجدير بالتأكيد انطلاقا من ثوابت تاريخية، بعيدا عن "اختلاف الرؤى ووجهات النظر" أن دعوات الإصلاح الإنسانية والسياسية لم تبدأ انطلاقا من حقبة الحداثة وأطروحاتها في أوروبا، إنّما سبقتها بعدّة قرون على مساراتٍ ارتبطت بأطروحات فلاسفة وساسة عديدين، أبرزهم:
1- مارسيليو دي مينارديني (ت 1342م/ 742هـ)، وقد دعا إلى مجتمع جمهوري قائم على السيادة الشعبية، قبل حوالي أربعة قرون من ظهور ما يُعرف بالعقد الاجتماعي الذي يعتبره الحداثيون مرجعية سياسية.
2- نيقولو ميكيافيلي (ت 1527م/ 933هـ)، الذي اشتهر بفلسفته النفعية وتطبيقها في حياته السياسية، ولكنّه تميّز بدور فعّال عبر مجلس السلام والحرية في فلورنسا، حيث قام حكم جمهوري مستقلّ عن روما القريبة. ورغم ما عُرف عن ميكيافيللي إلاّ أنّ العقد الاجتماعي يصنّفه بين أوائل مَن دَعَوا إلى حرية الشعوب وهو جزء من أجهزة السيطرة عليها.
3- جون فورتيسكو (ت 1476م/ 881هـ)، الذي دعا إلى الحدّ من السلطة الملكية، واعتبر وجود سلطة الملك مرتبطا بإرادة الشعوب، وتابعه على ذلك جورج بوخينان (ت 1582م/ 990هـ) وهو ما لعب إلى جانب عوامل أخرى دوره في مسيرة الثورة الإنجليزية عام 1688م/ 1099هـ.
4- جان بودان (ت 1596م/ 1004هـ) وقد دعا إلى سيادة الدولة على المواطنين فيها، مؤكّدا بذلك رفضَ السلطة الكنسية المطلقة، ومتأثّرا بالحقبة التي عايشها، وكانت حافلة بالحروب الدينية في أوروبا، لا سيّما بين الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية في فرنسا.
5- الفيلسوف الشاب جيوفاني بيكو ديلا ميراندولا (ت 1494م/ 899هـ)، درس العربية والعبرانية، ووضع 900 فرضية فلسفية ثمّ دعا -وعمره 23 سنة- فلاسفة العالم إلى مؤتمر عالمي في فلورنسا، ولم ينعقد المؤتمر، ونَفَتْه الكنيسة الكاثوليكية من روما لاحقا، وكان أوّل من كتب حول الكرامة الإنسانية.
6- الشاعر فرانسيسكو بيتراسا (ت 1374م/ 775هـ)، وقد أعطته كتاباته الحوارية حول الإنسان وكرامته وحقوقه وصف مؤسس الفلسفة الإنسانية في الغرب.
7- العالم اللاهوتي إيراسموس ديزيديريوس -واسمه الحقيقي Geert Geertsen- (ت 1536م/ 943هـ)، طرح فلسفته الإنسانية من منطلق ديني إصلاحي في إطار كنسي كاثوليكي، وعُرف بكتاباته التهكّمية الناقدة، وبصلته الوثيقة بالسياسي والفيلسوف الإنساني أيضا توماس مور (ت 1535م/ 941هـ).
8- علاوة على من ظهر في ميادين الأدب والشعر والفنون والعمران وغيرها.

يسري شبيه ما سبق على ميادين الحياة المادية المختلفة، بصورة تثير الدهشة من تصوير مقولة الفصام بين الدين والعلم، وكأنها بدهية مسلّم بها، وأساس انطلقت الحداثة منه، فبنت النهضة الأوروبية، وهو ما يتناقض مع "وقائع زمنية" لمجرى المراحل التاريخية المتتابعة والتي ظهرت الحداثة في مؤخرتها وليس في مقدمتها!..
لم يكن يوجد أي بذرة من بذور "الحداثة" ناهيك عن الإلحاد المنبثق عنها لاحقا، عندما بدأت النهضة في ميادين التطوّر العلمي والتقني والمادي بأوروبا، وكانت مقدّمة للثورات التالية في هذه الميادين، بغضّ النظر عن أطروحات الحداثة لاحقا. وقام ذلك على أرضية تطوّر طبيعي، من معالمه بإيجاز:
1- ارتفاع الكثافة السكانية بعد أزمة النقص السكاني الكبير بنسبة 10 في المائة تقريبا نتيجة انتشار وباء الطاعون/ الموت الأسود في أوروبا بين عامي 1347 و1353م/ 748 و754هـ، بعد انتشاره في وسط آسيا وجنوب البحر الأبيض المتوسط. وأدّى ارتفاع عدد السكان إلى ازدهار التجارة والاقتصاد، وتطوّر الزراعة، وازدياد عدد التجمّعات المدنية.
2- خرق حظر الفوائد الربوية الكنسي في منتصف القرن 16م/10هـ ممّا أدّى إلى نشأة عدة مصارف مالية كبرى وازدهارها خارج نطاق سلطة الكنيسة، وأشهرها فوجّر وميديشي، فكان ذلك بداية النهضة الأوروبية بوجهها الرأسمالي، مع ملاحظة رفض موبقاته المتفاقمة.
3- أدى ذلك إلى سوء أوضاع معيشة الطبقات الفقيرة، وإلى نشوب سلسلة حروب الفلاحين على امتداد ثلاثة قرون تقريبا، إنّما تزامن ذلك مع ظهور بذور الحركة الصناعية والاختراعات وإلى توسّع شبكة المواصلات وتطويرها مع تنشيط الحركة التجارية والاقتصادية، وهو ما كان بدوره البداية لتكوين الطبقة الرأسمالية وقيام الاقتصاد الغربي على أسس جديدة ساهم في صنعها تنشيط الرحلات البحرية (التي سمّيت اكتشافات جغرافية).
4- وعلى الصعيد التقني شهدت هذه الفترة الأولى من العصر الحديث في أوروبا قبل حلول القرن 15م/ 9هـ على سبيل المثال دون الحصر تطويرَ البوصلة، وتطوير ساعات الأوزان وساعات النوابض، واختراع طباعة الكتب، واختراع البارود. وكان لذلك علاقته في اكتساب الأوروبيين مضامين علمية وتقنية وأساليب تقنية جديدة، نتيجة الاحتكاكات المباشرة بالحضارة المزدهرة في المنطقة الإسلامية المجاورة، إضافة إلى ما كان نتيجة هجرة عدد كبير من الفلاسفة والفنانين ومهرة العمّال وغيرهم ممّن كان في الدولة البيزنطية متوجّهين غربا بعد سقوطها، واستقرار كثير منهم في إيطاليا على مقربة من مركز البابوية الكاثوليكية.

فلسفات التنوير الأوروبي لم تطرح إلحادا مطلقا ولا انفصاما مع الدين مماثلا لما طرحته الحداثة لاحقا، ولم تنطلق من الدين أيضا، إذ لم يكن بين يديها في الأطروحات الفلسفية الكنسية ما يمكن أن تنطلق منه، ومن ربط بين "الدين" وكثير من القيم التنويرية، كان يشيد بالإسلام تخصيصا، دون أن يعتنقه دينا، ونجد كثيرا ممّا طرحته فلسفات التنوير الأول لا تتناقض مع ما يطرحه الإسلام ويضبطه بالوحي.
كان من أبرز معالم فلسفات التنوير الأوروبي ومفق ما يؤرّخ لها أوروبيا بثلاثة من مشاهير فلسفته، هم: رينيه ديكارت (ت 1650م/1060هـ)، وفولتير (1778م/ 1192هـ)، وإيمانويل كانط (1804م/ 1218هـ):
1- دعم الوعي العام، الفردي والاجتماعي، بتعميم المعرفة.
2- تأكيد الحرية الفردية الإنسانية مقابل الحكم المطلق.
3- ربط معاني الفضيلة بتحصيل المعرفة وسلوكيات الحكمة.
4- اعتبار الخيرية من الطبيعة البشرية وربطها بالاتجاه العقلاني الفلسفي.
5- تأكيد مدخل النقد والشكّ (بعيدا عن طرق التشكيك والريبية المطلقين الناشئين لاحقا) إلى المعرفة.
6- تنامي أهميّة المعرفة التجريبية الحسية دون اعتبارها مطلقة (كما صنعت الحداثة لاحقا).
أما ما يضاف إلى ذلك ويُعتبر نقطة مفصلية في الموقف من التنوير في دائرتنا المعرفية فهو:
7- بذور إعطاء الطبيعة مكانة الأديان القائمة على الوحي، وهو ما أصبح محضنا للحداثة منه لاحقا، بتطوير ذلك إلى مستوى مقولة "إعطاء الطبيعة مكانة الأديان بديلا عن الأديان القائمة على الوحي".

الجدير بالذكر هنا أنّ نقل القسط الإيجابي من هذه العناصر إلى دائرتنا الحضارية غاب أو غُيِّب في القسط السلبي، نتيجة خلل كبير صنعه التغريب في دعوات التنوير التغريبية، تركيزا على جوانب معيّنة، أقرب إلى الإلحادية، منها إلى الجوانب الإنسانية والفكرية التنويرية، مع التركيز (والخلط التاريخي زمنيا) على الحداثة المتأخرة في مسلسل مسيرة النهضة الأوروبية، والإلحاد وغلبة المادية في نهاية المطاف.. وليس في بدايته.
أقل ما يقال في ذلك ما ورد بقلم الباحث د. علي أسعد وطفة ((يأخذ مفهوم الحداثة مكانه اليوم في حقل المفاهيم الغامضة. وإذا كان هذا المفهوم يعاني من غموضٍ كبير في بنية الفكر الغربي الذي أنجبه، فإن هذا الغموض يشتد في دائرة ثقافتنا العربية ويأخذ مداه ليطرح نفسه إشكالية فكرية هامة تتطلب بذل مزيد من الجهود العلمية لتحديد مضامينه وتركيباته وحدوده))(22).
وأغرب من ذلك أن الاستغراق في طرح الحداثة الغربية بما في ذلك تمرّدها على الدين، يأتي في الساحة العربية والإسلامية في فترة انحسار مقولاتها غربيا انحسارا شبه كامل، قد يعبر عنه قول الفيلسوف والمؤرّخ الأمريكي جون لوكاتش (ولد 1924م/ 1342هـ): ((نحن الآن على مشارف عصر جديد لم تتضح بعد كل معالمه، ولكنّ الشيء المؤكد هو أنّ عصر الحداثة التكنولوجية قد "أكل وقته" كما يقال وأعطى كلّ ما يمكن أن يعطيه. نحن الآن في نهاية عصر بأكمله، ولكنّ قليلين هم الذين يعون ذلك أو يعرفونه! في الواقع أنّ معنى ذلك قد ابتدأ ينبثق في قلوب الكثيرين، ولكنّه لم يظهر بعد على سطح وعيهم))(23).

إنّ ظهور اتجاه الإلحاد في الحداثة الغربية له جذوره ودوافعه المنبثقة عن حصيلة تاريخية طويلة لممارسات القضاء على الفكر الآخر بالقهر والاضطهاد والاستئصال منذ أن تناول سقراط (ت 399 ق.م) السمّ بنفسه وفق الأعراف الإغريقية عند صدور حكم الإعدام بحقه (بسبب فلسفته التوليدية القائمة على توعية العامة سؤالا يستخلص الجواب منهم)، وحتّى موجات حرق الساحرات وإبادة الطوائف المعارضة وملاحقة العلماء وإحراق كتبهم في أواخر العصر الوسيط الأوروبي الكنسي. فهذا ما دفع التطوّر التاريخي الذاتي في الغرب إلى خلل كبير في اتجاه معاكس، أفسد أسس العلاقة بين العلوم والآداب والفنون وما وراءها من أطروحات فلسفية من جهة، وبين الدين وفق المفهوم أو المفاهيم، التي عرفتها الدائرة الحضارية الغربية له على امتداد 2000 سنة من جهة أخرى.
لهذا تحوّل قسط كبير من الأطروحات الفلسفية الغربية الحديثة إلى فرض وصاية معاكسة، كان من بينها الوصاية الإلحادية على العلم مشابهة ومناقشة للوصاية الكنسية عليه من قبل، وذلك عبر اتجاهات فلسفية ومناهج شمولية ترفض مفهوم الدين غربيا:
1- إمّا بإنكاره في موجات الإلحاد كما في الوجودية والوضعية.
2- أو بتطويعه للتفسير الفلسفي على غرار التعامل مع ما سميّ الأديان الطبيعية.
3- أو بحصاره وتحديد مجالات ممارسته فيما لا يؤثّر على المجتمع وعلومه وآدابه وفنونه ومعاملاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، على غرار ما عُرف عن العلمانية المتشدّدة.

هل يمكن الأخذ بسريان مفعول هذه الحصيلة لتاريخ الغرب مع فلاسفته الإغريقيين والكنسيين والمحدثين، في وصاية ووصاية معكوسة، لتطبيقها أو تطبيق ما يشابهها في الدائرة الحضارية الإسلامية ذات التاريخ المعرفي المختلف كليّة عمّا كان في الغرب؟..
بتعبير آخر: هل يصحّ إنكار وجود أسباب موضوعية وراء القول إنّ إشكالية الدين والعلم في الغرب إشكالية تاريخية غربية محضة لا علاقة لها بمعطيات دائرتنا الحضارية الإسلامية بالذات، ولا يمكن تعميمها على الأسرة البشرية ومسيرتها الحضارية؟
لقد كان تاريخ الفلسفة الأوروبية (الغربية) من بدايته حتّى حركة التنوير الأوروبي على الأقلّ تاريخ قهر السلطة، الدينية غالبا، لحقوق التحرّر الفكري والعلمي، فلا ريب في أنّه هو الذي أوصل إلى غلبة التمرّد في الاتجاهات الفلسفية الحديثة على الدين، وإلى الشطط في ذلك في كثير من الحالات.

من جهة أخرى:
طالما أنّ الفلسفة أصبحت في واقعنا المعاصر علما جامعيا مستقلا..
وطالما أنّ المنطلق الإسلامي المحوريّ في المعطيات المعرفية الذاتية في دائرتنا الحضارية لا يتناقض مع العلم وتحصيله..
ما هي أسباب الإشكالية التي تظهر بصور متعدّدة، بين ما يُطرح في دائرتنا الحضارية بخلفيّة فلسفية غربية، وبين المعطيات المعرفية الذاتية؟
للجواب على ذلك ينبغي أن نجرّد هذه الإشكالية ممّا تُحاط به من عناصر أخرى متعدّدة، بعضها مصطنع:
1- نميّز أولا بين علم الفلسفة ودراساته الجامعية النظرية لفهم واقع يُصنع خارج إطاره، وبين اتجاهات ومناهج تطبيقية تُطرح بقصد تغيير الواقع أو فرض واقع معين واستمراره..
2- ندع ثانيا جدالا لا يفيد، حول افتراء محض بصدد تناقض مبدئي مزعوم بين العقيدة الإسلامية والعلم..
3- نتجاوز ثالثا أمرا آخر لا علاقة له في الأصل بالمضامين الفلسفية ذات المنشأ الغربي، وهو الأسلوب الغالب على ممارسات ناقلي الأطروحات الفلسفية، وهو في غالب الحالات أسلوب استفزازي إلى درجة التبجّح بافتراءات ظاهرة على المنطلق الإسلامي الحضاري، لا العقدي أو الحركي فقط، ممّا يستثير ردود الفعل.
وفي مقدمة ما يجب تثبيته:
1- لا توجد أصلا إشكالية بين معطيات دائرتنا المعرفية وعلم الفلسفة نفسه، ولا ينفي ذلك أنّه -كسواه من العلوم الإنسانية- يتّخذ في كلّ دائرة حضارية معرفية ما ينسجم مع معطياتها من أُطر دون أن يخسر بنيته الهيكلية.
2- ولكن توجد إشكاليات عميقة ومتجدّدة -ولا بدّ أن توجد- مع أطروحات فلسفية متقلّبة مستوردة أو وافدة، تناقض بتوجّهاتها مباشرةً معطياتِنا الحضارية المعرفية. ولا يغيب عن الأذهان وجود إشكاليات وصدامات وصراعات فيما بين تلك الأطروحات بعضها بعضا، سيّان في أيّ دائرة حضارية معرفية وضعت.
3- لا تصلح هذه المسألة إذن لتوظيفها في دعم أيّ زعم عن تناقض ما بين الإسلام والعلوم.
4- الاستعراض التاريخي لتطوّر الفلسفة الغربية، ولا سيّما تدريسها، يسوّغ حجّة بعض الكتابات ذات المنطلق الإسلامي بالإشارة إلى ضرورة ملاحظة الاختلاف بين الإسلام والمسيحية كما مارستها الكنيسة، من حيث العلاقة مع العلوم عموما، ومع الفلسفة على وجه التخصيص. ويتّصل بذلك أن تلك الإشارة ترد أحيانا في صيغة أمر بدهي أو مؤكّد، دون تعليل بالتفاصيل التاريخية، ولا توجد حاجة منهجية إلى ذكرها كلّما زعم زاعم وجود تناقض بين الإسلام والعلم، وعدم ذكرها لا ينفي وجودها وأنّها تصلح لتقديم أدلّة منهجية.
إنّ الإسلام -وهو العنصر المحوري في دائرتنا الحضارية المعرفية- لم يعرف مثل تلك القبضة للوصاية على الفكر والآخر، أو على العلوم والآداب والفنون، بما يمكن أن يُقارن مع ما كان في الغرب، من قريب أو بعيد.
ــــــــــــــــــــــ
22- د. علي أسعد وطفة، "مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة"، مجلة "فكر ونقد"، العدد 43.
23- جون لوكاتش - John Lukacs، "في نهاية عصر - At the End of an Age"، مطبوعات جامعة ييل ـ ييل 2002م (1423هـ). والترجمة نقلا عن التعريف بالكتاب في جريدة "البيان"، دبي، 2/8/1423هـ و9/9/2002م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق